المطالب الشعبية مطالب وطنية

حديث الصباح ، جريدة الصباح

     في طرحنا لضرورة الميثاق الوطني الجديد بين الحكومة والمعارضة، وبينهما والشعب، أفقيا وعموديا، وقفنا على أن من بين المكاسب الكبرى التي يمكن تحقيقها خلق الثقة بين الشعب والمجتمع والدولة والارتقاء بالعلاقات المبنية على الشفافية والمصلحة الوطنية بين مختلف المكونات إلى ما يؤهل المغرب لدخول حقبة جديدة من التطور والتقدم.

    لكن كيف يمكن خلق هذه الثقة؟ وهل يكفي التلويح بالتواصل والتفاعل لتمهيد الطريق أمام ذلك؟

     لقد تغير الدستور، وجاءت الحكومة الجديدة. لكن هل توقفت المطالب الشعبية؟ سكان الأحياء في مراكش يعتصمون ضد شركة الماء والكهرباء. احتجاجات في تازة ووجدة والرباط… وفي كل يوم نقرأ أو نسمع اعتصامات في مختلف المناطق، ليس فقط من قبل المعطلين، ولكن من لدن سكان دواوير، وأحياء  شعبية، إلى جانب بعض النقابات.. ناهيك عما يجري في البلديات، بين المنتخبين، وعمال النظافة، والحافلات،،، وبما أنه لا دخان بدون نار، فإن نيران الفساد لا يمكنها سوى إثارة المزيد من الدخان. فكيف يمكن في هذا النطاق خلق الثقة؟ وهل يكفي تغيير الدستور واستنزاله لحل كل هذه المعضلات المتفاقمة؟

   المشكل الحقيقي مشكل تواصل. وهو وليد تاريخ من إخراس صوت الشعب بالكذب والعصا. ورغم الصيرورة الديموقراطية التي سبق إليها المغرب، ورغم التعددية الحزبية، لأن كل ذلك لم يتأسسس على قواعد الشفافية والمصلحة الوطنية، ها نحن نرى الاحتجاجات والاعتصامات في مختلف المدن والقرى، تمس مختلف القطاعات والمؤسسات، ومن لدن أفراد، يحرقون أنفسهم، أو ينتحرون، وجماعات تنظم مسيرات. وكل هؤلاء وأولئك لا علاقة لهم بالسياسة ولا بالمجتمع السياسي. إنهم أفراد من الشعب الذي ظل مبعدا ومستبعدا ومستعبدا. كانت أولى بوادر هذه الاحتجاجات الشعبية بارزة للعيان، لقصيري الذاكرة، منذ سيطرة ظاهرة الهجرة السرية، من خلال ما صار يعرف بـ” الحريق”، حيث صار “اوليدات الشعب” يفضلون الموت وسط البحر، على العيش في “وطن” لا يسمع لهم صوتا. وتوالت الظواهر المتصلة بالحرائق، حتى جاء الربيع العربي، فكانت الاستجابة، وكانت 20 فبراير حركة شعبية لا علاقة لها بالمجتمع السياسي، ولكن بمطالب الشعب التاريخية والمتغيرة.

     منذ الاستقلال إلى أواسط التسعينيات كانت القوى الحية والنقابات هي التي تخوض الإضرابات وتقود المظاهرات، وتؤدي ضريبة ذلك بالسجن وبالحرمان من الوظيفة. وكان من نتائج ذلك أن اكتسبت لها موقعا، مع المسلسل الديموقراطي، فـ”استفادت” بعض مكوناتها المعارضة من تواجدها في البلديات  والبرلمانات والوزارات. وبدأ التخلي عن الدور الذي كانت تضطلع به بالتدريج. غير أن “انسحاب” هذا المجتمع السياسي، بعد تعرضه للانشطار والانقسام، أدى إلى استرجاع “الشعب” مكانته، وها هو يصرح بمطالبه الشعبية.

   لا يمكننا سوى التسليم بجدية هذه المطالب الشعبية وشرعيتها. فالمطالبة بنيل حقوق تهم أفرادا وجماعات لا تتعارض في حال تلبيتها مع المصالح التي تهم كل المواطنين، لا يمكن أن تكون سوى مطالب وطنية، تهم كل الوطن. وعلى كل “المواطنين” وكل المجتمع السياسي، حكومة ومعارضة، أن يعتبرها مطالب جديرة بالتفكير الجماعي المسؤول والعمل على تلبيتها بما تقتضيه مصلحة الجميع.

   إن جزءا من المطالب الشعبية  الخاصة عابرة ومؤقتة ولكنها، في الوقت نفسه، متواصلة ومستمرة ولا يمكن إيقافها. فهل سيظل مجتمعنا مجالا مفتوحا للحركات المطلبية أبد الدهر؟ وتظل ساحة البرلمان مطوقة دائما برجال الأمن، وفضاؤها تملؤه مجموعة بعد مجموعة؟ عندما تصبح الحركات الاحتجاجية الشعبية واقعا، فهي دليل على وجود خلل بنيوي في المجتمع، من جهة. ومن جهة أخرى دليل على أن الشعب يريد أن يسمع صوته لمن لا يريد سماعه.

   جوابا على السؤال الجوهري أقول: عندما لا تصبح الحركات الشعبية الاحتجاجية المطلبية الخاصة ذات بعد “اجتماعي” وطني، فسنظل ندور في دائرة مغلقة. وسيظل الهاجس الأمني، وهذه معضلة واقعنا الجوهرية، هو المتحكم في تدبير شؤوننا السياسية والاجتماعية. سأضرب مثالين لعملية التحول من الحركة الشعبية إلى الحركة الاجتماعية.

     توجد في المغرب حاليا تنسيقيات وفروع وحركات وجمعيات وجماعات لا حصر لها. وكل منها له مطالبه الخاصة. ماذا يحدث عندما تلبى مطالب هذه الحركة أو تلك التنسيقية؟ لقد مارس المعطلون الاعتصامات الطويلة الأمد حتى لُبِّيتْ مطالبهم. لكن ماذا نجم عن هذه الاعتصامات؟ كل واحد من تلك المجموعات صار له رقم تأجير، وهو منخرط في حياته اليومية كأيها الناس؟ وتلك الجماعات صارت في خبر إن. ماذا لو أن تلك المجموعات، وهي تضم نخبا من المجتمع، انتقلت من مطلب التوظيف إلى مجموعات تتواصل العلاقات بينها بعد التوظيف؟ فتؤطر نفسها لتطوير عملها الذي ناضلت من أجل الحصول عليه، في مجال التعليم والتربية والتكوين، فتؤسس جمعيات تسهم في الرفع بمستوى التعليم في وطننا. بهذا ستكون قد انتقلت من المطلب الشعبي الخاص، إلى الانخراط في العمل الوطني العام. هذا مثال أول.

    كانت مناسبة الفواتير الخيالية للماء والكهرباء في بعض أحياء مراكش مناسبة للاحتجاج الشعبي. عندما يُحل هذا المشكل نهائيا، ماذا سيتولد عن هذه الاحتجاجات؟ لا شيء. كل سيعود إلى بيته مستهلكا الماء والكهرباء كما كان يفعل. لم لا تكون مناسبة المطلب الخاص فرصة لتأطير سكان الأحياء المتضررة، مثلا، من خلال إنشاء وداديات للنظافة، ولضمان بيئة سليمة، وجوار طيب، ويحققون تواصلا دائما بينهم، يمكن أن يكون نموذجا للأحياء الأخرى. أم علينا انتظار ما “يجمعنا” لفترة ، لـ “نتشعب” لدهور؟ هذا مثال ثان. والأمثلة لا حصر لها ولا عد.

   الميثاق الذي نتحدث عنه يتسع ليس فقط للمؤسسات السياسية ، للحكومة والمعارضة، ولكن أيضا بين مكونات المجتمع، أفرادا وجماعات. وما لم نرتق إلى تطوير علاقاتنا الاجتماعية، عبر التواصل الحضاري، المبني على الشفافية والمصلحة الوطنية، ستظل المطالب الشعبية، ذات البعد الوطني، غير قابلة للتحول إلى مشاريع وطنية. وبذلك سنظل بمنأى عن تحقيق الوطن الذي يتسع لكل المواطنين، وسيكون حديثنا عن تنزيل الدستور، والحكامة، ومحاربة الفساد، وكل الشعارات الأخرى حول حقوق الإنسان،،، حديث الليل الذي يمحوه النهار.  يقول بيير بورديو: “المشكل ليس في التواصل، في حد ذاته، ولكن في لاوعي التواصل”.