حوار شامل مع سعيد يقطين

  إعداد : كمال الرياحي 

                    

1 . لو تحدّثنا في بداية هذا الحوار عن الظروف التي جعلتك نزيلا على السرديات. كيف كانت مغامرة البدايات ؟ لماذا السرديات بالذات في زمن كان الشعر رأس الأجناس وسيّدها ؟

– في البداية أود أن أشكرك على هذا الحوار الذي سيمكننا من تجاذب أطراف الحديث حول قضايا تتصل بواقع النقد العربي ومشاكله وآفاقه في علاقاته بباقي المعارف والقضايا الاجتماعية . يعود سبب اختياري للسرديات كمجال للبحث في الخطاب النقدي إلى أني منذ أن بدأت أشتغل بالبحث والمقالة الأدبية تبين لي غياب إدراكنا لقيمة البحث العلمي ، وتركيزنا الكبير على ما يتصل بالإيديولوجيا لأننا كنا منخرطين في الجو الثقافي والسياسي العام . كان هذا التغييب وليد ظروف خاصة ترتبط بوعي المثقفين بواجبهم الاجتماعي ، وكان ذلك يتم على حساب خصوصية العمل الأدبي . وحتى عندما كنت منخرطا في هذا المجال من خلال كتابة بعض المقالات أو المشاركة في السجالات الشفاهية ، كنت أرى أن فهمنا قاصر عن خصوصية الأدب . ووقتها ( أواخر السبعينيات ) بدأت تظهر البنيوية التكوينية ، وظهر لي أن الوعي بتصور الأدب عند غولدمان كان ناقصا , فالذين اشتغلوا بآرائه لم يكونوا مطلعين على كتبه كلها . كان الاختزال والتسرع هو ما يطبع علاقاتنا بالأفكار التي تنتج خارج مجالنا العربي . ولما كان تكويني أدبيا وفلسفيا إلى حد ما ، فقد ظهر لي مع جيل من النقاد الشباب أن الرواية أكثر ازدهارا من الشعر الذي بدأ يفقد بريقه لاتصاله بشكل كبير ب » القضية » والتعبير عنها بشكل مباشر في أحيان عديدة . وكان اكتشاف عالم الرواية وخاصة مع التجديد الذي مارسه كتاب من مختلف الأقطار العربية ، بدءا من مصر ، مشجعا على التفاعل مع الرواية ، والخضوع لسحر عوالمها . وعندما بدأ الروائيون الجدد في المغرب في المشاركة أثارت كتاباتهم مناقشات عدة حول خصوصيتها . في هذه الآونة وفي زخم الاهتمام بالسرد ، تم اكتشاف التجديد النظري في أدوات التحليل بالقياس إلى البنيوية التكوينية . كان العالم البنيوي من منظوري أفق انتظاري المعرفي لأنه يستجيب لما كنت أطرحه من أسئلة عن علاقة الشكل والمضمون التي كانت تبدو لي ملتبسة في النقد العربي . وتبين لي من خلال الاطلاع على المظان البنيوية أن هناك اتجاهات مختلفة في تناول الظاهرة الأدبية عموما والسردية خاصة . فكان أن اخترت » البويطيقا » كنظرية عامة للخطاب الأدبي و » السرديات » كفرع منها . وبدأت أعمق تكويني فيها ، لأنه ظهر لي أن الذين اشتغلوا بالبنيوية في المغرب أو العالم العربي عموما لم يدركوا الفروق التي كانت تتكون داخلها ، وكان أن استنتجت أن درس الشكلانيين الروس حول ضرورة دراسة الأدب دراسة علمية هو ما نحن في أمس الحاجة إليه ، وإلا بقينا كلما ظهرت نظرية جديدة سرنا نلهث وراءها . وهذا هو واقع الحال . أما عندما نؤسس لممارسة علمية فإننا نقتنع بضرورة تكوين تصور محدد ، ونعمل على تطويره . وهذا ما حاولت القيام به في مختلف أعمالي ، ومن هنا لم أكن نزيلا على السرديات ، لأن طموحي كان منشدا إلى ضرورة العمل على تأسيس تصور علمي (ممارسة علمية ) لدراسة الأدب . ولم أكن أتوقع أن السرديات سيكون لها هذا التأثير في نقدنا العربي . أما الاتجاهات الأخرى ، فللأسف لم يتم تشكيلها في مناخنا العربي ولذلك ظلت محدودة التأثير رغم أن العديد منها كتب فيه الشيء الكثير . وأنا الآن بصدد تطوير السرديات لمعالجة الشعر ، والنص الإلكتروني وأنواع أخرى من النصوص تتجاوز الكلمة إلى الصورة ،،،. ويبدو لي من خلال ما أواكب من تطويرات للسرديات حالية أن المسار الذي اختطته منذ البدية يتصل ببعض هذه الاجتهادات وينفصل عن بعضها الآخر .

(2) اختلف النّقّاد حول نشأة الرواية المغربية. فمن أين نؤرّخ لها. من رواية « الزاوية » للتّهامي الوزاني أم من « في الطفولة » لعبد المجيد بن جلّون ؟!

– واضح أن سؤالك يتصل بالرواية المغربية . ويعود السبب في هذا الاختلاف إلى عوامل عديدة أحاول تركيزها على النحو التالي : هو أننا نريد كيفما كان الحال أن نتحدث عن نشأة رواية مغربية ، ولذلك يحاول كل من الدارسين البحث عن النص الذي يمكن اعتباره الأول . فهناك من يعتبر الزاوية ، وآخر في الطفولة ، وهناك من يذهب أبعد من ذلك إلى الرحلة المراكشية لاين المؤقت ، وهلم جرا . بالنسبة إلي أولا لايهمني هذا السؤال ، لأني الآن لا أعنى بتاريخ الرواية ، وإذا ما طلب مني التأريخ لها ، فإني سأؤرخ لها من أول رواية عربية ، لأني ببساطة أعتبر الرواية المغربية سليلة الرواية العربية ، وجزءا لا يتجزأ منها . وإني لأتعجب من النقاد » الوطنيين » الذين يودون صنع تاريخ خاص ل » الوطن » ، وكأن كل أوطانهم حققت ثورة صناعية فذة تمخض عنها ما ننعم به الآن من تحولات نوعية . كلا ؟ أرى أن الرواية في الأقطار التي تأخر فيها ظهورها هي امتداد للرواية العربية ، ونفس الشيئ أقوله عن الشعر الحر والمسرح ،،،

(3) وفد بعض الروائيين المغاربة على الجنس الروائي من حقول معرفيّة أخرى مثل عبد الله العروي (الفلسفة والتاريخ) بنسالم حميش (الفلسفة) حسن نجمي (الشعر)، إلى جانب تلك المزاوجة بين النقد والإبداع عند المديني والتازي… هل ساهمت اختصاصات هؤلاء في تلوين نصوصهم الإبداعية بألوان خاصّة ؟

– من الطبيعي أن تتلون نصوص الكاتب بمميزات ثقافته وتكوينه . لكن كل هذا غير كاف لأن الرواية تعبير عن وعي الكاتب وتجربته الخاصة ورؤيته للآشياء ، وإذا ما برزت ثقافة الكاتب ، وغطت على خصوصية التجربة ولم تتفاعل معها بالهيئة الملائمة ، فإننا نصبح أمام التكلف .

(4) هل توافق صدّوق نور الدين في قوله : » إنّ الرواية في المغرب خلقت القارئ المنتمي إلى النخبة ولم تستطع إيجاد القارئ العام. وأظنّ أن تجربة محمد شكري أو محمد زفزاف لا يمكن أن تتكرّر « . (مجلة المدى السورية، العدد 21 (3) 1998، ص 5)

– أتفق معه إلى حد ما ، لأن قارئ الرواية منذ الستينيات إلى الآن هو قارئ الأدب ، وقارئ الأدب هو المثقف المنشغل بقضايا الوطن وهمومه . هذا المثقف هو نتاج تكوين اجتماعي وثقافي خاص تكون خلال مرحلة الاستقلال أو قبلها بقليل ولم تلعب فيه المؤسسة التربوية غير دور محدود . لذلك تجد ضمن هذا المثقف صاحب التكوين الأدبي ، أو الحقوقي ، أو الاقتصادي أو العلمي . أما القارئ العام الذي نتحدث عنه فهو ما يزال غير موجود في العالم العربي بكامله لظروف عديدة ، وهو مختلف عن القارئ حين نريد المقارنة مع الغرب لعوامل مختلفة يضيق المجال عن الخوض فيها . فالإنتاج الأدبي ( الكتاب ) في كل العالم العربي لايطبع منه أكثر من ثلاثة آلاف نسخة ، وكذا عدد ما ينشر سنويا في كل الوطن العربي ما يزال هزيلا . هذا هو القارئ عندنا . أما صورة شكري أو زفزاف فليست نموذجية فلا يمكن القياس عليها لاعتبارات غير أدبية . فلا أحد من القراء المتحدث عنهم يعرفون شكري الكاتب في كل تجربته الروائية ، وإنما يعرفون الخبز الحافي .

(5) المؤسسة التربوية المغربية كيف تتعامل مع الرواية المغربيّة ؟

– باستحياء وخجل كبيرين ، والآن حصل تطور في اقتراح النصوص المغربية في مقررات الثانوي ، وفي الجامعة . لكن تعترضها صعوبة جمة لتحقق التواصل المطلوب معها . فمناهج تدريسها غير ملائمة ، كما أن النصوص المقترحة في أغلب الأحيان تتدخل فيها عوامل ذاتية . ولما كان القارئ المغربي معودا على النصوص المشرقية التي تكونت من خلالها ذائقته السردية فإنها يجد صعوبات في التعامل مع النصوص المغربية .

(6) يرى أحمد المديني في مؤلفه « الكتابة السرديّة في الأدب المغربي الحديث » أنّ الطرز السير ذاتي كان الانطلاقة الحقيقية للرواية المغربية التي يمكن دراستها إجمالا من المنظور الخصوصي للكتابة الأوتوبيوغرافية. كيف يقيم يقطين مدونة السيرة الذاتية في المغرب ابتداء من « الزاوية » وصولا إلى « وجوه » محمد شكري مرورا بـ »في الطفولة » و »الخبز الحافي » و »الشطّار » ؟

– سبق أن سئلت مثل هذا السؤال عن كثرة نصوص السيرة الذاتية في المغرب ، فكان جوابي: إننا ما نزال في حاجة إلى الكتابة عن الذات ، لأننا من جهة لا نعرف ذواتنا ، ولا نريد معرفتها. إن هناك عوائق تاريخية واجتماعية في الثقافة التي نحمل ضد الصدق وضد الحقيقة . فالمجتمع ما يزال ينظر إلى البدوي نظرة احتقار ، وإلى البادية نظرة دونية ، ونفس الشيئ يمكن قوله عن الفقر ، والعدم ،،، وهنا تكمن خصوصية تجربة شكري . والروائي حين يحاول الكتابة عن الذات فهو في رأيي يرمي إلى الارتقاء بالذات حتى تبرز ليس كما نريدها أن تكون ، ولكن في صورة أقرب على الواقع . ومن ثمة فكل سيرة ذاتية لشخص هي سيرة كل الأشخاص . هذا المدلول هو ما يمكن تحقيقه من خلال اتخاذ الذات الفردية أو الجماعية موضوعا للكتابة ، وليس ضروريا تحديد النوع أهو سيرة أم رواية .

(7) في مقال له بعنوان « الرواية المغربية وجهة نظر حول النشأة والامتداد » فتح الحبيب الدائم ربّي النار على الروائيين المغاربة واعتبر أنّ بعضهم مارس عقوقا قبل سن الرشد حين تنكّروا لكتابات أهل الشرق وانخدعوا بفتوحات « الرواية الجديدة » بفرنسا (ألان روب غرييه، نتالي سراوت، ميشال بيتور…) ورأى أنّ بعض الكتّاب بالمغرب أمعنوا في تخريب عروض الرواية المغربية الذي لم يتقنوه يوما في مستواه الديداكتيكي المدرسي والاستعاضة عنه بمصفوفات نثريّة بلا طعم ولا رائحة موجّهين سهام التعريض والسخرية إلى من ظلّ وفيّا لعمود الرواية القديم (عبد الكريم غلاب) وأنهى مقاله بنداء ملحّ للرهان على الآتي « الذي من الأمس بدأ » (انظر مجلة المدى السورية، العدد 23 (1) 1999). كيف نقرأ هذا الموقف. هل ترى فيه تحاملا على بعض التجارب الروائية وخاصة موجة التجريب ؟!

– لا أشاطر الزميل الحبيب رأيه كاملا في الموضوع ولا الطريقة التي صاغ بها ملاحظاته لاعتبارات عديدة : أولاها أن الروائي المغربي لم يمارس العقوق ؟على نموذج روائي عربي ، ولكنه وعى حدود هذا النموذج كما وعاها زملاؤه في المشرق العربي ، ومارس رغبته في إنتاج نص جديد على غرار نظرائه في مصر والشام . ثانيا الروائي العربي لم ينخدع ؟ بفتوحات الرواية الفرنسية لآن الصيرورة الإبداعية والوعي الذي صاحبها في مرحلة السبعينيات أديا إلى ذلك . والتفسير الإرادي للتاريخ لامعنى له ، فالتجارب الثقافية تتفاعل ، وكل واحدة منها في زمان معين مؤهلة للاستجابة للتطور ومواكبة نظيراتها التي تسبقها . ثالثا لاعروض ؟ مطلق للرواية ، وإلا لما عرفت التطور الذي حققته حتى في الغرب إلى الآن . هذا االعروض ( الرواية المحكمة البناء ) كان محل نقد في الغرب بعيد الحرب الثانية من الزاويتين الجمالية والمعرفية . إن الروائي الذي يشيد منطقا للعالم وفق عروض خاض يوهم بشكل أو بآخر بصورة العالم التي يمثلها . والرواية الجديدة في الغرب وفي العالم العربي ، وضمنه المغرب ، جاءت لتقوض تلك الصورة وتبين لانسجامها ولا واقعيتها حتى وهي مزدهاة بتكوينها تقدم الواقع كما هو ؟ لذلك قدمت في هذه النماذج هناك وهناك المصفوفات النثرية التي لاطعم لها يشابه طعم الرواية السابقة ، وهي تلك الرائحة الجديدة التي لاتعجب الذين تعودوا على نموذجية الرواية التقليدية . والصراع بين القديم والجديد صراع أزلي ، ولا يمكن الحسم فيه بتبني الأطروحات الجاهزة ، لابد من تحليل الأسباب الكامنة وراءه ، والرؤيات التي تتحكم في توجيهه .

(8) كيف ينظر الناقد سعيد يقطين إلى مقولة التجريب ؟ ما هي مقوّمات الرواية التجريبية؟

– التجريب في الرواية المغربية طريقة في الكتابة تنهض على أساس تجاوز التقنيات القديمة في الكتابة . ولقد سبق لي أن أصدرت سنة 1985 كناب القراءة والتجربة حول فيه الوقوف على ملامح التجريب في الخطاب الروائي الجديد بالمغرب . أما أهم مقوماتها فتتمثل في أولا بناء النص السردي على شذرات تنتمي إلى صيغ خطابية متعددة تتجاور فيها بنيات سردية ولاسردية ، وبناء على ذلك يتم تغييب المادة الحكائية أو وضعها في مرتبة ثانية . وعندما لاتنهض الرواية على أساس » قصة » قابلة للحكي تتدخل عناصر جديدة في تشكيل العوالم الروائية من خلال استحضار بنيات خطابية متعددة . ثاني الأسس التي تنهض عليها هذه الرواية تكسير خطية السرد إما لغياب القصة ، أو العمل على تقديمها بطريقة لاتضمن بناءها كما نجد في الرواية التقليدية . ويعتبر هذا من العوامل التي ساهمت في صعوبة التعامل مع هذه الرواية لأن القارئ يصعب عليه متابعة القراءة عندما ينفلت منه في كل مرة خيط السرد والحكي معا ، فلا يعرف إلى أين تتوجه الرواية . ومعنى ذلك أن القارئ المستعجل لايمكنه التواصل مع هذا النوع من الخطابات لأنها فعلا تستدعي مشاركة فعالة من لدن القارئ .أما ثالث المقومات التي أحب إليها هنا فيتعلق بكون الراوي في الخطاب التجريبي ليس راويا محاديا أو له وجهة نظر كالتي نجده عند الروائي التقليدي فهو يرمي إلى التفكير في النص الذي يقدم ، وينتقده ، وهذا الوعي الذي يتجسد منه خلاله الحكي يبين موقف الروائي من الرواية ، وهو يمكن تسميته بالميتاحكي . هذه جملة من المقومات وهي ننضافر مع أخريات لوسم هذه التجربة بسمات فارقة ومميزة

(9) ما هي الاختلافات بين الرواية التجريبيّة المغاربية والرواية التجريبية المشرقية ؟!

– هناك أولا الكثير من السمات التي تلتقي فيها التجربة على صعيد العالم العربي ، وهي تشترك أيضا مع الرواية الجديدة أو اللاروية في أوربا في مرحلة ، ومع الميتارواية في أمريكا في مرحلة لاحقة ، سواء على مستوى التقنيات أو المحتويات . لكن أهم سمة تتميز بها الرواية المغاربية وهي تقتحم هذا المجال هو أنها بالغت في القطيعة مع القصة أو المادة الحكائية وخاصة في المغرب وكانت تجسد رؤية خاصة إلى الواقع ، ولم تحاول الانطلاق من الواقع لتقدم هذه الرؤية . ومن هنا صعوبتها المضاعفة وخاصة على مستوى تلقيها , ولقد ناقشت هذه القضية في علاقتها بالقارئ ، وبينت أن رهان أو آفاق التجربة يتصل في قدرتها على خلق قارئها .هل يمثل التجريب في المغرب العربي لوحة متناغمة ؟ هل تتباين تجارب هؤلاء أم تتشابه (أحمد المديني، ميلود شغموم، واسيني الأعرج، الحبيب السائح، صلاح الدين بوجاه، إبراهيم درغوثي، فرج لحوار…) ؟!- بطبيعة الحال هناك الكثير من نقط الالتقاء على مستوى التقنيات على مستوى العموم ، لكن كل واحد يوظفها بطريقته الخاصة ، ورؤيته للأشياء . ومن هنا خصوصية تجربة كل واحد ، فحين يمارس أحدهما التجريب وهو يقطع أبدا مع المادة الحكائية ( المديني ) ونسبيا شغموم ، نجد الأسماء الأخرى التي نوهت بها في الجزائر أو تونس تشتغل على مادة حكائية ، وإذا كان البعض ينفتح أكثر على التراث ويحاول الانطلاق من عوالمه بصورة كبيرة (درغوثي ) ، نجد الآخر يقلل من ذلك (السائح / المديني)، أو يشتغل به في نصوص وفي أخرى يتعامل مع مواد مستقاة من الواقع ( الآخرون ) أو يحاول المزج . وفي الآونة الأخيرة ( أواخر التسعينيات حدثت تحولات كبيرة في رسم نصوص هؤلاء بسمات جديدة للأسف لما يتم التوقف عندها بعد ) .

(10) قرنتَ في إحدى مداخلاتك بين حداثة الرواية وسرديّتها. فكلّما « تحقّقت هذه السردية كلّما وجدنا أنفسنا أمام رواية حداثيّة » ثم رأيت أن مصطلحات مثل الحداثة وما بعد الحداثة هي « مفاهيم جنسيّة Génériqueذات حمولة إيديولوجيّة أكثر منها علميّة » (الرواية المغربية : أسئلة الحداثة) مزيدا من التوضيح. فهذه المفاهيم أصبحت وجبة رئيسية على موائدنا الثقافية.

– أنا فعلا لاأوظف مثل هذه المصطلحات أنها ذات حمولات تختلف باختلاف مستعمليها ، ولا يمكن أبدا الاتفاق بشأنها . وعندما أستعملها أحيانا فإني أبين كيفية تحديدي لها وطريقة نعاملي معها . وفي الدراسة التي أومأت إليها كان هناك الموضوع المحدد من قبل منظمي الندوة ، لذلك وتبعا للتصور المشتغل به حاولت ربط » الحداثة » بالسردية بالطريقة التي أحددها في الوقت الذي استعملتها فيه ، وهي تعني هنا تقنية خاصة في تطور الكتابة تراهن على تجديد الخطاب السردي ومن زوايا متعددة . هذا التجديد يعطي للرواية مع التطور إمكانية خلق تصورات جديدة للقراءة والوعي لدى القارئ بالعالم الذي يحيط به . وإذا كانت » الحداثة » بأحد معانيها تصورا يسعى إلى تجديد النظر إلى الأشياء لغايات ملموسة فهي تتحدد من منظوري من خلال هذه السردية » الجديدة » . أما طريقة حديثنا عن الحداثة ومابعد الحداثة وأضف إليها حاليا المجتمع المدني وما شاكلها فهي مصطلحات بالنسبة لمجتمعاتنا غير ذات معنى .

(11) استنادا إلى تقنيات الفنون البصرية (كولاج، مونتاج…) تحوّلت بعض الروايات إلى مصبّ لخطابات مختلفة، بعضها أدبي وبعضها غير أدبي (أخبار، قصاصات صحفية، خطابات سياسية…) حتى طغت أحيانا، هذه المواد الغريبة و »التهمت » النص الإبداعي. كيف تقيّم رحلة تقنيات الفنون البصرية في الرواية العربيّة ؟!

– ولماذا تصر على أنها » تلتهم » النص الإبداعي وهي جزء أساسي منه ؟ هذا طبعا إذا كانت موظفة توظيفا ملائما وبقصد مناسب ، وإلا فلا علاقة لها بالإبداع . أما عن علاقة الرواية بغيرها من الفنون فهو قدرها لتكون الفن السردي الأمثل . وهذا رهان أي فن . إنها ترمي إلى أن تتطور أبدا ، وهي في تطورها تسعى أبدا للانفتاح على سائر الفنون والاستفادة منها . لقد استفاد الروائيون في القرن التاسع عشر من منهجية البحث التجريبي وكان الواقعيون والطبيعيون وكتاب الرواية التاريخية مهندسين للخيال الجماعي من خلال تشكيل صورة الواقع أو إعادة صنع التاريخ . ومع ازدهار الصحافة ووسائل الإعلام حاول الروائيون الاستفادة من تقنياتها وصاروا محققين في تفاصيل الحياة وخصوصيات القضايا المعالجة فكانت أن ظهرت التسجيلية والرواية البوليسية ورواية الخيال العلمي ، واستفادت في كل ذلك وبموازاته أيضا بالسينما والتشكيل والدراما فظهر ذلك في تقنيات السرد ، وكان لها دوره الإيجابي في تقارب الرواية من هذه الفنون ، فصارت الرواية مادة السينما بامتياز ،،، وقس على ذلك . والآن ومع تطور وسائل الاتصال واستخدام الحاسوب صارت » الرواية التفاعلية » متجاوزة للبعد اللفظي وهي قابلة لاستيعاب البعد البصري والحركي وغيره .

(12) يعتقد بعض الممارسين للنقد الروائي أنّ حضور هذه التقنيات في الرواية يؤهلها لدخول عوالم الحداثة متجاهلا أن هذه التقنيات استفاد منها الشاعر « أبولينير » منذ بداية القرن العشرين ووظّفها الروائي الأمريكي « دوس باسوس » في العشرينات… فهل نقحم نصوص هؤلاء ضمن خانة النصوص الحداثية ؟!

– أنا لا أتحدث عن الحداثة ، وإذا كان بعض الشعراء أو الروائيين قد وظفوا هذه التقنيات فلأنهم أدركوا أهميتها في تقديم أشياء يعجز اللفظ عن تقديمها على النحو الذي تصوروا . ومادام توظيف هذه التقنيات يعطي للعمل الإبداعي خصوصية ويحقق له « إبداعية » تتوفر فيها المقومات الحقيقية لإبداع جدير بهذه الصفة فأنا أرحب بها وأعتبرها » إبداعا » رائعا ، أو سردية متجددة ، يستوي فيها النص القديم أو الجديد ولا عبرة عندي بالزمن ، ولك أن تراها حداثية أو ما بعد ما بعد الحداثة .

(13) لماذا ظلّت السينما المغاربيّة بعيدة عن الرواية المغاربية على عكس ما تعرفه السينما المصريّة ؟!

– لقد تأخر ظهور الرواية والسينما في المغرب العربي ، بالقياس إلى مصر . وهذا العامل لا يفسر وحده هذا البعد . فهناك عامل آخر هو التباعد بين المشتغلين بالفنون عندنا فهم لا يطلعون على أعمال بعضهم البعض ، ولا يعرفون بعضهم أيضا . هذا التباعد هو كذلك وليد ثقافة المشتغلين بالفنيين من حيث اللغة ، فالتكوين الفرنسي لأغلب السينمائيين يجعلهم يجعلهم لايلتفتون إلى ما يكتب بالعربية ، كما أن الروائيين المغاربييين لا يتواصلون مع الأعمال السينمائية المغاربية ، وهذا يجعل المسافة أبعد . عندما نرى كيف عمل محفوظ إلى جانب السينمائيين ، وتعلم منهم ، ندرك الفارق الكبير بين التجارب . ولا يخفى كذلك أن الرواية المغاربية حينما بدأت تفرض نفسها كانت على طرف نقيض مع السلطة . وهذا العامل يؤثر طبعا على التعامل معها بالصورة المقبولة . والآن بدأت محاولات التواصل بين السينما والرواية ، ولا يمكنها مع الزمان إلا أن تتطور .

(14) بماذا تفسّر عنف الخطاب وعنف المتخيّل في الرواية المغاربيّة. هل نرجع عنف اللغة والحدث الروائي إلى عنف الطبيعة أم عنف الإنسان أم عنف ما يعيشه ؟!!

– هذا العنف الذي تتساءل عنه نسبي في تقديري ، وهو يرجع بالأساس في بعض تجلياته إلى طريقة تعبير الكاتب حين تكون منفعلة مع الواقع الذي تعيش فيه ، ولا ترى لها من سبيل غير الإجهاز عليه من خلال الانطلاق من بعض عوالمه ، أو تضخيم التعبير عن بعض الأشياء التي تتناولها . صحيح عالمنا العربي يزخر بها يغذي هذا العنف ، والروائي الحقيقي لايعكس عنف الواقع على النحو الذي يوجد عليه ، ولكنه يقوم بقراءة له ويحاول رصده من أدق تفاصيله ويجعلنا ندرك هذا العنف دون أن تعرف اللغة الصخب الخارجي ، أو يظهر ذلك على صعيد ما أسميته » المتخيل » . بعض روايات صنع الله إبراهيم عنيفة ، لكن عنفها يبدو لك كقارئ ، وتستنتجه من بناء الرواية و » صخبها » الداخلي . لكن القارئ العادي لا يمكن أن يلمس هذا » العنف » . وبعض العنف الذي نجده في روايات المديني ودرغوثي مثلا نجده ما يعيشه الإنسان ويحسه ويحاول التعبير عنه .

(15) أصدرت كتابا حول الرواية والتراث وسميته بـ »الرواية والتراث السردي : من أجل وعي جديد بالتراث » (1992) تناولت فيه بالدرس جملة من الروايات العربية ومنها رواية « نوّار اللوز » لواسيني الأعرج. هل تشارك هذا الأخير في كون إضافة الرواية العربية للرواية العالمية رهين التفات الأولى إلى تراثنا الشفوي والمكتوب ؟!!

– لاشك أن التراث الشفوي والمكتوب يشكل المتخيل العربي والإسلامي ، ووعي الكاتب به ، وإحساسه به وتمثله والقدرة على تجسيده من خلال الكتابة السردية قمين بمنح التجربة الرواية مسحة خاصة تميزها . وفعلا عندما صدرت أولى روايات أحمد التوفيق » جارات أبي موسى » وهي رواية تمتح من التراث المغربي في خصوصيته ، كان عنوان تقديمي لها في إحدى الندوات » جارات أبي موسى : رواية مغربية « . بعض الزملاء الروائيين الذين أعتز بصداقتهم علق وهل رواياتنا ليست مغربية ؟ كنت قبل ذلك في الجلسات النقدية أدافع عن أطروحة » مغربية » الرواية المغربية ، والمقصود بذلك عثور القارئ المغربي وغيره على خصوصية المغرب واقعا ولغة وتاريخا وهموما ،،، ورأيت في رواية » الجارات » التي تحولت إلى السينما لخصوصيتها ، وكنت قد عبرت في ختام قراءتي للرواية عن رغبتي في أن أراها شريطا سينمائيا . أستنتج مما تقدم أن الالتفات إلى التراث هام إذا أحسن توظيفه . أما إضافة الرواية العربية إلى الرواية العالمية فليس محكوما بالتراث ، فهم يعرفون تراثنا أحسن من العديد منا ، وهناك العديد من الكتاب الغربيين الذين استفادوا منه في تجاربهم الإبداعية وقدموا أعمالا إنسانية . بالنسبة إلينا ماتزال الرواية ضيقة الرؤية ، وليست لها فلسفة تدعمها ، وهذه الفلسفة فلسفة الكاتب نفسه ما تزال منعدمة عند العديدين ، وعندما تنفتح رؤية الروائي على العالم المحيط بنا ، ويتم تقديم تلك الرؤية بخصوصية التراث السردي العربي آنذاك يمكن أن يكون للرواية العربية وضع مخالف بالنسبة لقرائها العرب أولا ، أي أن تصبح » عالمية » لقرائها الأصليين قبل القارئ الأجنبي ، ولا أقول إضافة إلى الرواية العالمية !

(16) بعض الروائيين العرب التفتوا إلى تراث غير عربي ولكنّهم استطاعوا أن يقدّموا أعمالا استثنائية ونذكر خاصة تجربة الليبي إبراهيم الكوني ( نزيف الحجر، التبر، المجوس…) والتي وظّف فيها التراث الصحراوي أو الطّوارقي، ما رأيك الشخصي في هذه التجربة ؟!

– المسألة ليست مسألة تراث عربي أو غير عربي ولكن كيف يمكن للكاتب أن يتفاعل مع تراث له خصوصيته ويقدمه بطريقة ملائمة . ما قدمه الكوني عن الصحراء يمكن أن يقدمه كاتب آخر عن البادية العربية في أي قطر عربي , فهل هناك كاتب عربي نجح في ذلك ؟ مجرد سؤال . صحيح للصحراء كما قدمها الكوني سحرها ، ولغاتها التي تختلف شيئا ما عما اعتدناه في الرواية العربية ، ولا يمكن لعالم الكوني إلا أن يجذب القارئ العربي وغيره ، ولقد أعجبت كثيرا بتجربته . لكن قراءة بضعة أعمال له في رأيي كافية لتأمل العوالم التي يقدم ، ويمكن للقارئ بعد إزالة الدهشة أن يحس ببعض الملل ، وتفقد هذه العوالم جاذبتها ما لم يجدد الكاتب أدوات سرده ، ويتجاوز الطريقة التي يكتب بها دائما .

(17) تتعالق الكثير من النصوص الروائية العربية اليوم مع التاريخ لتستثمره حدثا أو خطابا. كيف تفسّر هذه الالتفاتة إلى الماضي، هل هي عودة قصد امتلاك أقنعة لمواجهة واقع مأزوم يرشح بفنون الرقابة ؟ أم هي عودة الهـارب إلى الأمس الجميل ؟!

– لا يقنعني تفسير الظواهر بالرجم بالغيب . التاريخ جزء منا ، ولايمكن تجاوزه ، وإعادة قراءته والكتابة عنه أو بالتفاعال معه بالأشكال التي نجدها الآن تحقق الكثير من المكتسبات . لقد كان هناك في فترة من تاريخنا الحديث ، وخاصة بعد الخمسينيات نفور من الماضي ، واتخاذ مواقف جاهزة منه . لقد اعتبر دائما مجالا للرجعية والسلفية . هذا المنظور أحدث قطيعة مع تاريخ الذات . وحتى عندما تم الالتفات إليها مع المشاريع والرؤيات والمداخل الجديدة ( تيزيني / مروة ،،، ) نظر إليها من زاوية خاصة . لكن المبدع التفت إلى التاريخ من منظور مختلف ، فكان استلهامه إياه فنيا ودلاليا على درجة عليا من العمق . في قراءتي للزيني بركات حاولت الكشف عن هذه الخصوصية ، ونفس الشيء نجده في الوقائع الغريبة وفي أعمال أخرى . وفي ما يطالعنا حاليا من نصوص نجد التفاتات إلى زوايا هامة من تراثنا وتاريخنا .

(18) كيف ترى واقع الرواية العربية ومستقبلها ؟!

– واقع الرواية هو واقع الروائي والقارئ . وعندما ينسد أفق » الإبداع » أمام الكاتب وهو « يرى » المجتمع ، ينغلق عليه باب » سرد » . ونفس الشيء نقوله عن القارئ . الروائي الحقيقي لاينتظر من السياسي أو الإيديولوجي أن يقدم إليه رؤية عن العالم ليقدمها هو بطريقته التي تناسبه في التعبير . يمكنه أن يقوم بهذا العمل ، إذا أحسن الإنصات إلى نبض الواقع ، ولم يبق عبد » الأحداث » السياسية المتلاحقة . مايقع في عالمنا العربي إذا تتبعناه بعين من لا يرى بعيدا ، ولايتأمل خلف ما يجري لايمكنه إلا أن يستسلم ويحس بالعبث ، والعجز . وهذا هو الواقع ، ولذا أرى أن الرواية العربية بدأت تفقد بريقها العام . الرواية التي لاتفتح أمامي شعاعا للأمل ، وتدفعني إلى التفكير بطريقة تختلف عما تقدمه لي وسائل الإعلام ، ليست جديرة بهذا الاسم . وأرى أن مستقبل الروتية العربية رهين بإعادة التفكير في الواقع وبطريقة جمالية فيها الكثير من الدقة والعمق .

(19) لم نقرأ لك عملا حول الرواية النسائية. هل صحيح أن يقطين يحمل حسّا ذكوريا في انتقاء نصوصه التي يروم مقاربتها ؟!

– كما قلت سابقا بصدد الحداثة أقول بصدد النسائية . وأنا لا أحمل حسا ذكوريا وأنفر من هذه الاستعمالات لأنه ببساطة غير دقيقة . أتمنى أن أكون حاملا لحس جمالي يؤهلني للتفاعل مع الإبداع الجيد ، فأكتب عنه بما يعبر عن هذا الحس ويجليه . ولقد سبق لي أن كتبت عن تجربة الروائية السعودية رجاء عالم ، وكتبت مقدمة رواية ومجموعة قصصية لكاتبتين من المغرب ، وأنا الآن بصدد الكتابة عن سميحة خريس . هل الحس اللاذكوري هو الكتابة عن روايات كتبها نساء ؟ لا أعتقد . الإبداع لاعلاقة له بالجنس ، والنص لاعلاقة له بالذكورة أوالأنوثة . بعض الكلمات في كل اللغات تتعالى عن الجنس .

(20) روايات الخيال العلمي في الوطن العربي لماذا – حسب رأيك – لم تحقّق مقروئيتها. ألأنّ القارئ العربي لم يتخلّ عن الصورة القديمة للرواية، التي من وظائفها أن تجعله يصدّق ؟! أم أن المبدع الذي يعيش في فضاء « ماضوي » لا يمكن أن ينجح في قول المستقبل لأنّه أول الجاهلين به ؟!!

– لايمكن أن تكون عندنا رواية الخيال العلمي ، ببساطة لأن لا علم لنا . فمن أين نأتي بالخيال. نحن ضد العلم ، فأنى لنا التفكير في العلم أو الإنتاج من خلال الخيال ذي الطبيعة العلمية . هل عندنا كاتب رواية الخيال العلمي ؟ ماهي صلاتهم بالثقافة العلمية ؟ أي ثقافة علمية يتصلون بها ؟ نحن ما زلنا غاطسين حتى الركب في الإيديولوجيا لأسباب عديدة ، وما لم نفكر فيها بطريقة علمية لا يمكن الانتقال إلى مرحلة أخرى من إدراك العالم وتأويله . وعلينا أن نتساءل إلى جانب السؤال عن رواية الخيال العلمي ، عن روايات الأطفال ، والرواية المصورة ، والرواية الفانطاستيكية ، والرواية التفاعلية ،،،لماذا لم توجد ولم تتطور بعض هذه الأنواع الروائية في مناخنا الإبداعي ؟ إنها الإشكالية نفسها التي حاولنا الإيماء إليها ونحن نتحدث عن رواية الخيال العلمي .

(21) قرأنا لك بعض المقاربات في الرواية التونسية (حول أعمال طرشونة وأعمال درغوثي…) كيف وجدت هذه الرواية ؟!

– في تلك المقاربات بينت وجهتي نظري ، وطريقة قراءتي للنصوص . إنها نصوص تبين عن إمكانيات هامة لدى الكاتب العربي أيا كان القطر الذي ينتمي إليه في التعبير بواسطة الرواية . لقد تأخر كثيرا ظهور الرواية في المغرب العربي ، لكن التجربة الجديدة تكشف عن قدرات جديدة تختلف عن الأعمال المبكرة ، وهي تعد بالشيء الكثير . شخصيا لم أتفاعل مع تجربة المسعدي وغلاب رغم أن لهما نصوصا رائدة ولعل ذلك يعود إلى الوقت الذي قرأت فيه هذه النصوص . لكن الانطباع الذي تركته لدي منذ قراءتي لأعمالهما في السبعينيات ما يزال يحول دون ذلك . لقد كتب عن تجربة المسعدي الشيء الكثير في تونس ، لكن ذلك لم يقنعني . أما تجربة الروائيين الجدد فهي متميزة فهناك لغة حية ، وامتلاك لناصية الموضوع نجدها واضحة في أعمال بوجاه وطرشونة ودرغوثي والحوار وبوعثمان وروائيين آخرين مثل العش الذي حللت إحدى رواياته ووجدت فيها ذكاء في التناول وقدرة على بناء نص متكامل . وهناك إمكانات واعدة .

(22) تقول مارت روبر « لا ديمقراطية دون رواية ولا رواية بدون ديمقراطية » فلا يمكن للرواية أن تعيش في فضاء يسوده الحكم التيوقراطي. هل هذا يعني أنّ انتظار الرواية العربية مثل انتظار الديمقراطيّة ؟

– علاقة أي إبداع بالمناخ العام قوية . والجو السياسي العام يؤثر فعلا على حرية التعبير ، ويقلل كذلك من إمكانات تصرف الكاتب . وإذا كان من الممكن الانتظار في عالمنا العربي فما أخشاه هو أن يطول كثيرا . لذلك لا أربط بين الديموقراطية والرواية ، ونفهمها سياسيا فقط ، فالفهم الاجتماعي أساسي للديموقراطية . ولعلك تتفق معي أن المجتمع العربي له سلطته أيضا ، وهي لاتقل عنفا عن السلطة : فالروايات التي صودرت ، والأفلام التي تمنع من العرض ، تدخلت فيها سلطات اجتماعية لاعلاقة لها بالسلطة وهذه الأخيرة لا يمكنها سوى الرضوخ لقرارات ترى أن لها شرعيتها . لكن مع ذلك فالروائي يمكنه أن يكتب ، وإلا طال انتظاره .

(23) ما هو موقع القارئ من العمليّة الإبداعية اليوم، هل فعلا أصبح قارئا فاعلا وغادر تابوته ليشارك في إنتاج النصّ. أم مازال يرضى بدور المنفعل والمغفّل الذي تخدعه ألعاب الروائي ؟!

– علينا ألا نتصور أن القراءة تزجية للوقت ، وبحث عن متعة خاصة . إنها سلوك حضاري وتحقيق لإنسانية الإنسان . نحن لم نرق إلى هذا المستوى ، المجتمع التقليدي ما يزال يعتبر القراءة مرتبطة بالدراسة وبالامتحان . وعندما تخرج عن هذين النطاقين فهي لجلب النوم . لذلك لا يمكن في العالم العربي بكامله الحديث عن » جمهور القراء » . ويكفي أن ننظر كم يطبع من الكتاب العربي ليظهر لنا ذلك . هذا على وجه الإجمال ، لكن العربي الذي يقرأ ذكي لأنه يقرأ ، وما هو الذي يؤهله ل » التفاعل » مع الجيد والمفيد . وهذا لقارئ للأسف قليل بالقياس على باقي أفراد المجتمع . وما يزال بنتظرنا الشيء الكثير لتحويل المجتمع ، وما لا يهتم به المقفون عندنا ، الذين ما تزال همومهم سياسية بالدرجة الأولى . مجال المثقف الحقيقي هو المجتمع وليس السلطة . لكن طموحات المثقفين عندنا سياسية لأنهم يرون أنفسهم أهلا لتسيير المجتمع ، وهذا هو الفرق بين العرب والعجم ؟

(24) اهتممت بالسير الشعبية فأصدرت « ذخيرة العجائب العربية : سيف بن ذي يزن » و »الكلام والخبر » و »قال الراوي » كيف وجدت هذا الحقل ؟ هل استفادت منه السردية العربية المعاصرة ؟!

– إنه بحر لاساحل له . وهو مفيد من نواح عديدة في الإبداع ، والدراسة في مختلف التخصصات اامتصلة بالعلوم الإنسانية . والعديد من الروائيين العرب بدأوا يتفاعلون مع هذا التراث في ملاحمه الخاصة التي أراها غتية بما تزخر به من معطيات تتصل بالمتخيل العربي الإسلامي .

(25) قدمت وحققت كتاب « سيرة سيف التيجان » وأحسب أنّه مازال لم يظهر بعدُ في الأسواق. كيف تقدّم هذا المؤلف إلى القارئ ؟

– سيرة تعرفت عليها عندما كنت أشتغل بالسيرة الشعبية العربية ، وهي غير معروفة لدى القراء العرب لأنها ببساطة غير موجودة بالعربية ، ترجمت إلى الفرنسية في القرن التاسع عشر ، وعثرت على ثلاث مخطوطات منها في الكتبة الوطنية الفرنسية ، ومخطوطة بمكتبة كلية الآداب بالرباط تحت اسم مغاير وغير صحيح . طبعت في تونس في أوائل القرن العشرين ، وعثرت على هذه النسخة ، وعندما سألت عليها بعض الزملاء ( طرشونة ) وعدني أن يبحث عن الناشر ، وبعد مدة أخبرني أن لاوجود لها في أي دليل للكتب أو المخطوطات . النسخة المطبوعة لحسن الحظ عندي ، وعندما لاتوجد في البلد الذي طبعت فيه فهذا دليل على تطور الكتاب عندنا . كلما اشتغلت فيها وقع لي عائق ، ولكني سأكرس لها هذا الصيف لأنهيها إن شاء الله

(26) هل « معجم السرديات » قادر على توحيد المصطلح النقدي العربي الذي ظلّ متلوّنا من قلم إلى آخر ومن كتاب إلى كتاب ؟!

– المعجم لا يوحد . ولكنه سيوحد إذا تطورت السرديات ، وواكبت المستجدات ، وتجاوز المشتغلون بها المسبقات .

(27) أعتقد أنّ مصطلح التناص Intertextualitéومشتقاته وأنواعه من أهمّ هذه المصطلحات التي عرفت جدالا ونقاشا ؟!

– هذا جزء من مشاكل اللغة العربية ، والمعرفة العربية . والتطورات التي حصلت الآن في مجال نظريات النص ، وخاضة مع التكنولوجيا يبين من كان يستعمل المصطلح ومشتقاته بدقة ووعي وبمنظور بعيد ، ومن كان يتعاطى مع المصطلحات بعفوبة وبساطة .

(28) ما ينفكّ المغرب الأقصى يهدي إلى العالم العربي نقّادا على درجة كبيرة من العلميّة والحرفيّة خاصة في ميدان السرديات مما جعل البحوث التي تنجز مغربا ومشرقا لا يمكن أن تخلو حواشيها من أسماء : حسن بحراوي، سعيد يقطين، حميد لحميداني، نجيب العوفي، حسن نجمي، محمد برادة، محمد عزالدين التازي، أحمد المديني، عبد الفتاح الحجمري…ما سرّ هذا الإشعاع ؟ هل هو نتاج لعمل تأسيسي فعلا ؟!البعض يقول إنّ كل السرّ في ما قدّمته دور النشر اللبنانية لهؤلاء النقاد عندما نشرت بحوثهم الجامعية وعملت على ترويجها فروّجت معها أسماء أصحابها، بينما بحوث عربية أخرى لباحثين عرب تركن مخطوطة في رفوف الكليات فيصعب تداولها ويهمّش أصحابها. كيف ترى واقع المسألة ؟!

– ما قدم في المغرب كان نتاج تطور طبيعي . فالمغرب الذي كان في السبعينيات يحتل الرقم الأول على مستوى القراءة كما كان يصرح بذلك كل الناشرين العرب ، جاء زمان ليلعبوا دور الكاتب دون أن يتخلوا على دورهم كقراء . ولا أعتقد أن الفرق هو بين المنشور والمخطوط . فحتى في المغرب لا تطبع كل المخطوطات . وأرى أن هناك نوعا من الجدية في التعامل مع القضايا في المغرب ، وهذا هو مصدر الإشعاع الذي اومأت إليه .

(29) تحدّثت عما سمّيته بالحذلقة Bricolage. ما هي نسبة المتحذلقين بين المشتغلين في حقل النقد الأدبي؟ ما هي أسباب تكاثرهم ؟!هل نعيش عصر « المقاربة السندويتش » ؟!

– لا يمكن للعدد إلا أن يتزايد ، ولا سيما عندما يتم الاستسهال ، ويتقهقر دور الجامعة في الارتقاء بالبحث الأدبي إلى المستوى الملائم .

(30) هل تصنع الجامعة نقادا ومبدعين ؟! لماذا يظلّ المبدع الأكاديمي متهما بانتمائه للجامعة ويبقى العصامي متهما بعصاميته : واحد تهمته علمه والآخر تهمته جهله ؟!!

– هذه التمييزات تبسيطية . فالجدية هي الأساس ، وليس هناك فرق بين الجامعي وغير الجامعي ، فليست الجامعة هي التي تكون الناقد ، قد تمكنه من تكوين معين ، قد تحفزه على العمل لإنجاز أطروحة . لكن النقد ليس أطروحة فقط ، فهو عمل متواصل ، وتطور دائم .

31 . قرأنا لك في السرديات وخاصة في الرواية والسيرة الشعبية. هل كتب يقطين في نقد الشعر ؟

ـ لا يمكن للمرء أن يكتب في كل شيء ، ولكني أهيء دراسة منذ زمان ، ولم أنهها بعد حول علاقة الشعر والسرد ، وسأتناول العلاقة من منظور سردي

32 . وضع جيرار جينيت الحوار في خانة النصوص المصاحبة Paratextesواعتبره عتبة مهمّة للتعامل مع النصوص الأدبية في علاقتها بالمتلقّي/الجمهور. كيف تتعامل مع الحوار الأدبي من خلال علاقتك بالصحف والدوريّات ومن خلال تجربة هذا الحوار ؟!

+ أشكرك على هذا الحوار ، لقد كان مهما ، وأثيرت فيه الكثير من القضايا ، والحوار فعلا قد يكون مولدا للأفكار ، وباعثا على النقاش . لقد وفرت لي هذين الجانبين ، وآمل أن يثير هذا الحوار المطلوب منه ، وهو أن يكون مفيدا ، ودافعا للنقاش .

 http://cahiersdifference.over-blog.net/article-75477020.html