الفن ، الحرية، المجتمع

حديث الصباح / الأربعاء 4يوليوز 2012

الواقعية الفجة لا علاقة لها بالحرية ولا بالإبداع .

سعيد يقطين

   يثار الحديث، الآن، عن الفن والحرية الإبداعية. ويختزل الحديث عن الحرية في الفن باسم الواقعية. كما أن ذاك الحديث يربط تارة بالحداثة، وطورا بحقوق الإنسان. وعندما نتأمل جيدا هذه الخطابات نجدها في العمق رد فعل على التحولات التي يعرفها الربيع العربي وصيفه الإسلامي. لا جدال في أن هذه الأحاديث كانت تثار بين الفينة والأخرى قبل الربيع العربي وتداعياته السياسية والاجتماعية. لكن تزايد نبرة الحديث في الآونة الأخيرة يتصل اتصالا وثيقا بما يجري في الرقعة العربية، ولعل آخرها وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في القاهرة، وما أثاره ذلك من ردود أفعال من لدن بعض الفنانين الذين فكروا في الخروج، أو الهجوم، بذريعة أن الإسلام ضد الفن والحرية الإبداعية والحقوق الفردية.

   لو أن ردود الأفعال المتعلقة بالفن والحرية وهي، بالمناسبة سياسية، كانت تناقش بالاسم التيارات الإسلامية، ومواقفها بصورة موضوعية، لهان الأمر، وقلنا إن مثقفي هذه الأحزاب أولى بتوضيح مواقفهم من الفن والحرية، وفي ذلك إرساء لتقاليد جديدة في الحوار والاختلاف، ولكن أن يكون ذلك مناسبة وذريعة، باسم الحداثة وحقوق الإنسان، تارة، وباسم نزعات عرقية طورا، لمهاجمة الثقافة العربية الإسلامية، وقيم المجتمع المغربي والعربي، فذلك أمر يدعو إلى ضرورة ممارسة الحوار حقيقي، لا السجال السياسي أو الإيديولوجي العقيم، لأن الفن والإبداع، رغم علاقتهما الوطيدة بالمجتمع والسياسة، إذا تناولهما من لا علاقة له بالموضوع، لا يمكنه إلا أن يسيء للفن والإبداع. وفي كل التاريخ الحديث، في أوربا قبل الوطن العربي، استعمل الأدب والفن لغايات غير فنية أو جمالية فكانت مواقف المتخصصين في علم الجمال والفن بالمرصاد لكل النزعات التي تسعى لتوظيف الفن لأبعاد لا علاقة لها بالفن أو الحرية. وللأسف الشديد ظل الحديث عندنا، نحن العرب، عن الفن والأدب والثقافة والحرية والحداثة (ولكل هذه المفاهيم خلفيات تاريخية وفلسفية وعلمية وجمالية) لأنصاف المثقفين وأشباههم من أصحاب النزعات والشطحات، ومروجي الثقافة اليومية البسيطة. فإذا الحداثة والحرية تختزلان في “مطالب” لا علاقة لها بالفن والإبداع والمجتمع، وإذا الإبداع يختصر في نقل الواقع “كما هو” أي في واقعية فجة، بذريعة أن الفن “تمثيل” للواقع، ونقل له كما هو.

    إن الخلط مقصود بين الأشياء، ومرده أحيانا إلى الجهل، وأحيانا أخرى إلى الكذب المتعمد. والسبب في كل ذلك يعود إلى أبعاد سياسية واضحة. وكلما اختلط الحديث عن الفن والحرية والإبداع بالسياسة، ولا سيما حين تكون الخلفية المنطلق منها تقضي بأن أصحابها يمتلكون “الحقيقة”، يكون الحجاج بالخطأ وبالباطل للتعتيم والتشويه، وتلك مقاصد تتصل بالسجالات التقليدية والذهنيات العتيقة لما قبل الربيع العربي.

    حين يتعلق الأمر بالجنس وعلاقته بالحرية والإبداع، نقول للذين يتحدثون عن الثقافة العربية الإسلامية، بالزور والكذب، إن التراث الجنسي العربي (بأنواعه المختلفة) من الغزارة والكثرة بحيث لا يضاهيه أي تراث. والأدبيات في هذا الباب لا تحصى، والتراث الجنسي الإنساني، قبل القرن التاسع عشر، موزع بين الصين والهند والعرب. وإلى الآن ما يزال التراث الجنسي العربي فاعلا في الكتابات الأجنبية المعاصرة. وفي المغرب، يكفي أن نعود إلى تراث الملحون بالدارجة المغربية على سبيل المثال، لنجد نصوصا لا تصل إليها النصوص الإباحية الغربية الأكثر إغراقا في الجنسية.

   لكن مهلا، هل المقصود، في الفن هو أن يكون إباحيا لكي يكون فنا؟ وهل “الفنان الجرئ”  هو الذي يمارس العنف اللغوي؟ هل التعري هو الفن؟ إذا كان الأمر بهذه الدرجة، لكان الأحداث في الشوارع الشعبية أكثر إبداعية، ولكانت شجاراتهم وسبابهم الجرئ بالألفاظ التي يتحرج منها المجتمع فنا راقيا. ولكان تصوير اغتصاب قاصر، كما هو في الحقيقة، لا في الواقع ، ( وهناك فرق بينهما) فيلما يستحق أغلى الجوائز. ولكانت أفلام الخلاعة هي الفن الحقيقي الذي لا يمكن أن يعلوه أي فن؟ أين الفن؟ وأين الحرية؟ بل وأين الحداثة؟

    لم نطرح أسئلة حقيقية حول الفن وطبيعته ووظيفته في المجتمع. وكل الأجوبة التي قدمناها بصدده في السبعينيات كانت ذات طبيعة إيديولوجية: “صراع الطبقات”. والآن نقدم الأجوبة نفسها، ولكن في سياق آخر: “حقوق الإنسان”. انتقلنا من “موسكو” (الأممية الاشتراكية) إلى “واشنطن” (العولمة في زي الطائفية والعصبية والعرقية؟). باسم “الالتزام” أنتجنا أدبا سطحيا وفجا، وصفقنا له لأنه “ثوري”. وباسم “الحرية” ها نحن ندافع عن السطحية والفجاجة وندافع عن فن ما؟ لأنه “حداثي”. بين الالتزام والحرية، والثورية والحداثة نردد شعارات “متعالية” عن الواقع، ونلوك خطابات “أخرى” بطريقة ببغاوية. وكما أننا رددنا الأدبيات الثورية الماركسية ببلاهة، ها نحن نكرر الأدبيات الحداثية وما بعد الحداثية ببلادة. أين المشكل؟ هل طرحنا هذا السؤال؟

     ألسنا قادرين على إنتاج أفكار ملائمة للعصر الذي نعيش فيه؟ أليست لمجتمعنا المغربي والعربي إمكانيات خلق نخب فكرية وثقافية عميقة وقادرة على الفهم والتفسير؟ وتكون في مستوى اقتراح منظومات فكرية لها بعد إنساني؟ لطالما قارنا بين التجربة اليابانية والمصرية، وتساءلنا لماذا نجحت اليابان فيما أخفقت فيه مصر؟ وقارنا خلال المد الثوري بين التجربة الفيتنامية والتجربة العربية. وها نحن مضطرون الآن لمقارنة التجربة الصينية بالتجربة العربية في خضم المد الحداثي؟

     نتحدث الآن عن حقوق الإنسان؟ وعن حرية الفن؟ وعن الحداثة؟ ما هي الأدبيات الفلسفية والفكرية التي ننطلق منها في هذا الحديث؟ لا أخفي، وأنا أقرأ ما يكتب في إعلامنا، أنني أرى الحداثة أحيانا تتلخص في الشذوذ وما صايمينش والعلاقة الجنسية البعيدة عن الزواج والتعري والخمر وما شابه هذا من النزعات الصادمة والمواجهة للقيم السائدة في المجتمع. كل هذه النزوعات، لا أرى لها أي علاقة بالحداثة وما بعد الحداثة في الكتابات التي أطلع عليها. هذه النزوعات “الحداثية؟” وأغرب منها وأكثر جرأة يزخر بها التراث العربي الإسلامي. وهي موجودة في تراث كل الأمم التي عرفت رصيدا حضاريا متطورا كالذي تعيشه الدول المصنعة حاليا. وهي أخيرا، دليل على بدايات تحول في الحضارة التي تصل إلى هذا المآل. هذا ما يعلمه إياه التاريخ، ولهذا بدأنا نجد الآن في الغرب وأمريكا دعوات كثيرة تناقش كل النزوعات الهامشية التي هيمنت بعد الحرب الثانية من منظور مختلف.

   الفن نوعان: عام وخاص، وعلني ومحدود، وخالد وعابر. والفن الحقيقي يتوجه إلى جميع الأجناس والفئات العمرية لأنه يرتقي بالإنسان القيم الإنسانية الأصيلة والثابتة. أما الفن الخاص والعابر فيتوجه إلى فئة محددة وخاصة، لأنه تعبير عن نزوات خاصة. ألا نجد في بعض الأفلام الأروبية حيث “حقوق الإنسان” إشارة إلى أنها ليس موجهة إلى من هم دون 18 سنة؟ لماذا هذا الإقصاء لهذه الفئة العمرية التي علينا أن نربيها على القيم والأخلاق ونسمو بأفكارها ما دامت تمثل المستقبل؟ وفي الفضاء الشبكي، لماذا نجد إمكانية  الحجز على بعض المواقع التي تتسم بالعنف اللغوي أو العنصري أو العنف أو الخلاعة على غير الراشدين؟ أليس في ذلك تقليصا لـ”الحرية الإبداعية” في المجتمعات التي قطعت أشواطا في الحداثة وحقوق الإنسان؟

   قد يكون الفن العابر صادما للمجتمع، أو أكثر مبيعا. وقد يثير الضجات. لكنه لا يمكن أن يكون فنا حقيقيا. الفن الحقيقي لأنه سليل الفن الإنساني تعبير عن القيم الإنسانية الأصيلة والمتعالية على الزمان والمكان، وإن انطلق من خصوصيات  محلية. لذلك نرى أن الغزل، باعتباره تعبيرا عن مشاعر إنسانية صادقة سيظل موجودا أبدا. أما الفن الزائف فلأنه تعبير عن موجات أو نزعات تتصل بظروف خاصة وعابرة، فإنه يزول بزوالها، ولذلك نجد الغزل الإباحي، لأنه تبخيس للمشاعر لا علاقة له بالإبداع. الفن رؤية عميقة للإنسان والمجتمع وللعالم، ولذلك فهو يتوجه إلى أي إنسان كيفما كان جنسه أو عقيدته أو لغته أو سنه، وكيفما كان الزمان أو المكان.