حــــول المشـروع النقــدي – الإبستمولوجـي عنـد الدكتور سعيـد يقطيـن

الدقة في المنهج والرحابة في التأويل.

                           د. نورالدين محقق

 

يعتبر د. سعيد يقطين من الوجوه العربية البارزة في ساحة النقد الأدبي يهتم بشكل خاص بالمجال السردي بمستويه القديم والحديث. وقد صدر له في هذا المجال مجموعة من الكتب المتميزة هي على الشكل التالي:”القراءة والتجربة”، “تحليل الخطاب الروائي”، “انفتاح النص الروائي”، “الرواية والتراث السردي”، “ذخيرة العجائب”، إضافة إلى كتابيه الكبيرين: “الكلام والخبر” و”قال الراوي”. ومنذ انطلاقة د.سعيد يقطين التي تميزت بعمقها الفكري وبتمكنها من الأدوات المنهجية الدقيقة التي تقوم باستعمالها وهو يسعى لإقامة مشروع نقدي شامل، يختص بالمجال السردي دون سواه من الأوجه الإبداعية الأخرى، ذلك أن  هذا المجال لا حدود له، فالسرد يشمل، كما يقول رولان بارت، مختلف الخطابات سواء كانت أدبية أو غير أدبية(1). ولقد كانت بداية هذا المشروع، لاسيما في كتابه الأول، أي “القراءة والتجربة” منصبة بالأساس على تفكيك بنية الرواية العربية الجديدة، ممثلة بالرواية المغربية تحديدا، وتبيان أهم صفاتها حيث نجد أنه قد توقف عند كل من الروايات التالية “الأبله والمنسية وياسين” للميلودي شغموم و”بدر زمانه” لمبارك ربيع، و”وردة للوقت المغربي” لأحمد المديني و”رحيل البحر” لمحمد عز الدين التازي.

ولقد استطاع د. سعيد يقطين، في عمله النقدي هذا، أن يؤسس بالفعل الانطلاقة الدقيقة لهذا المشروع النقدي الهام والطموح جدا، إذ حدد فيها خصائص المنهج العلمي الذي يسعى لتوظيفه من أجل الاقتراب من عالم الروايات التي اختارها مجالا لدراسته. فهو قد قام بالبحث في مكونات الخطاب الروائي البنيوية المشكلة لهذه الروايات وهي مسألة لم يكن النقد العربي يعيرها اهتماما كبيرا في ذلك الوقت، مما يؤكد من جراءة هذه الخطوة النقدية الجادة التي قام بها والتأثيرات الكبرى التي خلفتها وراءها. كما أنه في موازاة مع ذلك قد استعمل أدوات ومفاهيم جديدة، تفتح بالأخص من علم السرديات بغية الإمساك بروح الصراحة والبحث العلمي(2) وهو ما سنجد أنه سيلجأ فيه إلى متابعة خطواته المنهجية السابقة. فهو سيعتمد على  السرديات البنيوية، كما تجسدت وتبلورت من خلال الاتجاه البويطيقي، لتناول خصائص الطرائق المختلفة التي تقدم بها المادة الحكائية في السرد العربي، ممثلا له بنفس الرواية أيضا. لكن هذه المرة في بعدها العربي المتنوع، إذ سنجد أنه سيتوقف عند بعض أهم الروايات العربية المشكلة له ولأشكال التعبير فيه. ويمكن الإشارة إليها على الشكل التالي: رواية “الزيني بركات” لجمال الغيطاني، ورواية “عودة الطائر إلى البحر” لحليم بركات، و”أنت منذ اليوم” لتسيير سبول، و”الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” لإميل حبيبي، وتوقفه هذا عند هذه الروايات سيشمل أهم المكونات التي ينبني عليها الخطاب فيها، والتي تتجلى في مكون الزمن  ومكون الصيغة ومكون الرؤية السردية. ولقد انطلق في عملية بنائه لمشروعه النقدي هذا من تحديد دقيق لكل مكون من هذه المكونات الثلاثة، مستعرضا أهم الطروحات البويطيقية التي قامت بتعريفه، ومناقشا لما ورد فيها من قضايا، رابطا ذلك بالتصورات العربية القديمة حول كل مكون من المكونات، خالصا في النهاية إلى طرح الاقتراح الشخصي له مبينا أسباب تبنيه من الناحية العلمية والإجرائية، الشيء الذي يمنح لمجهوداته البحثية هاته، دقتها المنهجية وقدرتها على معالجة الموضوع الذي يتناوله، أي موضوع الخطاب. يقول الباحث عبد الفتاح الحجمري، واصفا المجهود العلمي الذي قام به د.سعيد يقطين في هذا الصدد ما يلي :”يستند تقديم المقترح المنهجي للسرديات وتشعبه لدى سعيد يقطين على معاينة العديد من الاعتبارات التصورية المرتبطة بتحليل الخطاب وإجراءاته المحددة للممارسة السردية، والأوصاف الممكنة التي يستدعيها الشكل الأدبي من ثمة استفادة يقطين من مختلف الأدبيات السردية التي اعتمدها في تعميق أسئلة القراءة وتحديد موضوع النظرية السردية بطموح علمي منفتح” ( 3) . إضافة إلى هذا، فإن أهمية المشروع النقدي عند د. سعيد يقطين هو كونه مشروعا يتميز بانفتاحيته وقابليته لإجرائية التطور، مع محافظته على أهم الثوابت العلمية المشكلة له، وبالتالي تمثلت بالخصوص في الاشتغال على الخطاب ومختلف أبعاده النصية، لأنه هو “الموئل الأساس” لعلم السرديات من جهة، والرغبة في توسيع عملية تحليله بالاستفادة من نظريات النص وسوسيولوجيا النص الأدبي بكثير من المرونة، مستفيدا في هذا الجانب من أهم ما جاء به بيير زيما من طروحات، ومطورا في كثير من الحالات لها، عن طريق تفعيلها مع النظرية التناصية كما حددها كل من جوليا كريستيفا ولورون جيني وجيرار جنيت وسواهم. ولقد تجلت مجهوداته البويطيقية هاته في كتابه “انفتاح النص الروائي” لتأخذ مداها الواسع في الكتاب الذي تلاها، أي كتاب “الرواية والتراث السردي”. فبالنسبة للكتاب الأول، نجد انه قد تناول فيه مسألة النص الروائي والسياق الذي يتحكم فيه، حيث نجد أنه  قد قام فيه بتعريف النص في شكله الشمولي مميزا بينه وبين الخطاب، متوصلا إلى كونه يشكل “بنية دلالية تنتجها ذات (فردية أو جماعية) ضمن بنية نصية منتجة، وفي إطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة”(4)، دون أن يفصله فصلا تاما عن الخطاب، على اعتبار أن هناك صلات وثيقة تربط بينهما تتجلى في كون الخطاب يشكل وظيفة تواصلية في مقابل النص الذي يشكل وظيفة نصية. ولقد ركز في دراسته للنص، انطلاقا من تحليله لمحتويه الداخلي والخارجي معا، على تحديد مختلف البنيات المتحكمة فيه، كالبنيات الزمانية والبنيات المجتمعية النصية، وأنواع التفاعل النصي ومستوياته، تأسيسا على هذا، يمكن اعتبار أن هذا الكتاب أي “انفتاح النص الروائي” تتميما وتطويرا لما ورد في كتاب “تحليل الخطاب الروائي” ما دام أن “الإسهام المركزي لدراسة يقطين، يميل نحو توسيع أفق اشتغال السرديات، وفهم “سردية الخطاب الحكائي” من خلال ثلاثة معايير متكاملة: الصيغة، السرد، الزمن”(5)، وقد تجلت عملية التوسيع هاته، في إدخاله لعنصر النص، كمفهوم مختلف، كما أوضحنا، عن الخطاب، ولمكون أساسي من مكونات الفعل السردي(6). زيادة على هذا العمل السيميوطيقي الهام، نجد أن د. سعيد يقطين في كتابيه هذين، قد فتح بابا جديدا في  مشروعه النقدي الكبير هذا، هو باب ربط الإبداع السردي العربي الجديد بماضيه، أي بالتراث السردي العربي القديم الذي يتفاعل معه. فهو قد انطلق فيهما من تناول دراسة هذا الجانب، أي حضور الجنس الأدبي التراثي في الرواية العربية الحديثة، ومدى تأثيره في عملية تأطير بنيتها الروائية انطلاقا من تحليله لتمفصلات الرؤية السردية لرواية “الزيني بركات” للكاتب جمال الغيطاني من جهة أولى وللعلاقة القائمة داخلها بين الخطاب التاريخي وبين الخطاب الروائي من جهة ثانية، بهدف معاينة تميز خطاب الزيني بركات عن الخطاب التاريخي الذي افتح منه المادة التاريخية الذي اشتغل عليها(7)، محددا في هذا الصدد خصائص كل شكل سردي منهما كما أنه قد قام بتحليل وتفكيك البنية المتحكمة في تمفضلات الرؤية السردية ذاتها في رواية تشكل إحدى أهم العلاقات الروائية البارزة في هذا التوج الفني الروائي وهي رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” دون أن يقيم أي تعلق نصي بينها وبين أي نص سردي – تراثي، لأن الذي كان يهمه في هذا الصدد هو  تحديد هذه الرؤية في علاقاتها بالناظم الخارجي والداخلي من جهة وباقي المكونات السردية الحاضرة في هذا النص الروائي من جهة أخرى. أما بخصوص كتابه “الرواية والتراث السردي” فهو يتمحور حول تحديد علاقة النص الروائي بتراثه السردي، كما يعلن عن ذلك في عنوان الكتاب ذاته، وهو يدرسها انطلاقا من رؤية شمولية تبتدئ من تحديد الرواية بالسرد القديم، ليصل بعد ذلك إلى تحديد علاقة الإنسان العربي بتراثه، بمعنى أنه ينطلق من نصية الرواية ليصل بعدها إلى نظرية النص في كليته. ففي هذا الكتاب النقدي الهام، سنجد أن الباحث د. سعيد يقطين، سيوسع حتى أدوات اشتغاله، فهو إذا كان قد اشتغل في كتابه السابق “انفتاح النص الروائي” في دراسته للسرد الروائي بثلاثة أنواع من التفاعلات النصية، أي المناصة والتناص والميتانصية، فإنه هنا سيضيف إليها تفاعلا نصيا آخر هو المتعلق النصي. وسيقوم باعتماده لدراسة أربع روايات قد ارتكزت في عملية انبنائها على نصوص سردية قديمة وحاول أن تؤسس وجودها الخاص انطلاقا منها. وهي حتى وإن كانت تندرج ضمن إطار الجنس الروائي، فإن تعالقاتها النصية تتراوح بين أجناس سردية مختلفة، يمكن الإشارة إليها على الشكل التالي:

1 ـ جنس التاريخ. 2 ـ جنس الحكاية الشعبية.3 ـ جنس السيرة الشعبية.

 لينطلق هذا المشروع النقدي الهام نحو وجهة اخرى، نحو العودة إلى الماضي السردي العربي، لتفكيك بنياته، وإعادة صوغها وفق منهج إبستمولوجي أساسه السيميوطيقا في مختلف تجلياتها الكبرى وقد مهد د.سعيد يقطين لوجهة مشروعه هذا، بإصداره لكتابه “ذخيرة العجائب” الذي سيستحضر فيه كتابا سرديا قديما هو “سيرة سيف بن ذي يزن”، وسيقوم بعملية فهرسته وفق أهم التصورات السردية الحديثة. وهو العمل ذاته الذي سيقوم بإنجازه في كتابيه “الكلام والخبر” و”قال الراوي”. في الكتاب الأول، أي “الكلام والخبر” الذي يحمل عنوانا ثانيا مميزا هو مقدمة للسرد العربي. يطرح د. سعيد يقطين قضايا بالغة الأهمية على مستوى البحث العلمي المتعلق بمجال السرديات العربية، إذ ينطلق فيه من إعادة قراءة مفهوم التراث في حد ذاته، لأنه يراه مفهوما دائما لا يستجيب لإجرائية العلمية الدقيقة ذلك أنه يشمل كل الآثار التي بقيت من عمران وعادات وتقاليد وذات صلة وثيقة بالحقب الماضية (ارتباط التراث بمفهوم الزمن) ومن الصعب حصره إذا نحن أخذناه انطلاقا من مفهومه المتشعب هذا. كما أن عملية حصره للدلالة على الأدب الذي كتب قبل عصر ما، اصطلح عليه بالنهضة العربية من أدب، فيه تبت كبير على باقي المآثر الفكرية وغير الفكرية التي أدخلت تحته من جهة. الحل العلمي لهذا الإشكال المعرفي تمثل، عند د. سعيد يقطين في البحث عن مفهوم جديد يعوض من جهة ويقتصر على الأنشطة الأدبية بمختلف تجلياتها فحسب، مفهوم يتجاوز  هذا النوع الكبير الذي يشتمل عليه مفهوم التراث، كما يتجاوز الحصر الزماني والمكاني اللذين يخضع لهما أيضا، والدلالات الإيديولوجية التي يحملها. ولقد كان د. سعيد يقطين موفقا جدا في اختيار مفهوم النص في إطلاقيته لتعويض مفهوم التراث، خصوصا وأن هذا المفهوم يسع دراسة مختلف الأوجه الأدبية التي عرفها العرب، فهي إما أنها نصوص أو أنها ليست نصوصا (لا نصوص) تبعا للمواصفات التي يحددها كل عصر على حدة والمواضعات التي تتحكم في أحكامه هاته. ويبقى حتى لهذه اللانصوص حتى امتلاك الاعتراف بنصيتها دائما. كما أن اختيار هذا المفهوم يمنح للبحث مجالات متعددة إذ  يتيح إمكانية معالجة أي نص، كيفما كان شكله أو شكل العلاقة التي يتخذها، وكيفما كان العصر الذي ظهر فيه أو طبيعة الثقافة التي ينتمي إليها (8) كما أن عملية دراسة النص من خلال نظرية التفاعل النصي ستتيح إمكانية الاقتراب منه في علاقاته مع نصوص أخرى إن عن جنسه الأدبي أو حتى من أجناس أدبية أخرى مختلفة عنه، وقد درس من خلال هذا المفهوم ونقيضه أي النص واللانص مسيرة جنس السيرة الشعبية وتحولاتها بين اعتبارها تارة لا نصا تبعا لمواضعات غير أدبية وتارة نصا معبرا عن قيم ثقافية وحضارية فرضتها العلاقة التي أقامها الشرق أو فرضت عليه مع الغرب، وهي مواضعات لا تمت للأدب بأي صلة. ومن أجل ترهين البحث في السيرة الشعبية لابد للباحث من تجاوز الاعتماد على الملاءمة الاجتماعية في دراستها، وهي – كما يتضح –  الطريقة التي انتهجتها معظم الدراسات العربية التي أنجزت بصددها، وتبني، كما يدعو إلى ذلك د. سعيد يقطين ويقوم بفعله في دراسته هاته، طريقة جديدة، هي الطريقة التي ترتكز على الملاءمة العلمية المنفتحة على الملاءمة المعرفية بأبعادها الاجتماعية والإيديولوجية، وهو العمل الذي سنجد أن د. سعيد يقطين قد قام به بحنكة منهجية لافتة للنظر، فهو قد انطلق في دراسته لهذا الجنس الأدبي الذي ظل مهملا من الاهتمام العربي الرسمي حتى انتبه إليه الغربيون، من تحديد جملة من  المفاهيم الإجرائية لتناوله، مركزا في هذا الجانب على مفهومين رئيسيين هما مفهوم الكلام ومفهوم الخبر. فبالنسبة للمفهوم الأول نرى أنه يعتمد في تعريفه له على أهم المصادر العربية القديمة التي تطرقت إلى تحديده وتبيان أهم الأجناس والأنواع المنضوية تحته، معيدا التفكير فيه بمنظور جديد لا يفرق داخله بين ما قد اعتبر فيه نصا وما قد رفض فيه على أساس اللانصية التي نسبت إليه محاولا في هذا الصدد إقامة نظرية عامة للكلام، لاسيما في تجلياته العربية أولا. وقد بدل في ذلك مجهودا علميا جديرا بالتنويه والمتابعة من لدن كل المهتمين بالمجال السردي في بعديه النظري والتطبيقي. تمثل هذا المجهود بالخصوص هنا، في الطريقة الإجرائية التي ميز بها الأجناس الأدبية المنضوية تحت مفهوم الكلام، والتي حددها في الشعر والحديث والخبر لينطلق بعد هذا إلى البحث في خصوصية كل جنس منها على حدة، وتحديد الأنواع التي يمثلها والعلاقات القائمة فيما بينها، كما يتطرق في هذا الصدد إلى تحديد الأنماط المتحكمة في كل جنس أو نوع، في تصور شمولي وعميق، ينفتح على الدراسات السردية في شتى تجلياتها بدءا من سرديات القصة ومرورا بسرديات الخطاب ووصولا إلى سرديات النص. وهو عمل علمي جبار يبين على الكفاءة العلمية والعملية التي يتميز بها الباحث د. سعيد يقطين وعلى انشغاله المضني بهذا المجال العلمي الصعب.

أما في كتابه الثاني أي كتاب “قال الراوي” فهو يدرس فيه خصائص البنيات الحكائية في السيرة الشعبية محددا إياها في مفهوم واحد هو “الحكائية” التي  يعرفها بكونها “مجموع الخصائص التي تلحق أي عمل حكائي بجنس محدد هو السرد”(9) وهو يشتغل بها ضمن “سرديات القصة” موضحا في هذا الصدد أن أغلب السرديين قد أهملوا البحث فيها إذا انصب اهتمامهم على البحث في مفهوم الخطاب وتعددياته تاركين البحث في المادة الحكائية للسيميوطيقيين الذين ركزوا في دراساتهم لها على الدلالة أو المعنى المتضمنين فيها، ومن هنا فإن دراسته لها ستكون انطلاقا مما أغفله السرديون، وليس من مجرد التركيز على الدلالة أو المعنى أسوة بالسيميوطيقيين،أي ستكون دراسة سردية لها، انطلاقا من الكشف عن مختلف بنياتها سواء من حيث اتصالها بالخطاب أو النص أو من حيث تبيان مجمل الخصائص الفنية والجمالية التي توجد فيها. ولقد انطلق من أجل تحديد ذلك من نص السيرة الشعبية كما تجسد في الكتابة، محاولا تفكيك بنياته الكبرى والمكونات الأساسية المتحكمة فيها، كاشفا بعد ذلك عن العلاقات التي أقامتها هذه البنيات مع السياق الثقافي والتاريخي الذي أنتجها. معتمدا في علمه التحليلي المنفتح هذا، على تصور نظري محكم مستمد من علم السرديات في أجلى وأوضح تصوراته، كما صاغها مجموعة من كبار السرديين مثل جيرار جنيت وسواه، بمعنى أنه هنا حاول المزاوجة بين الانطلاق من النص المدروس الذي هو هنا السيرة الشعبية بغية الوصول إلى استكشاف أهم مكوناته للوصول، انطلاقا مما يطرحه من قضايا سواء من حيث مادته الحكائية أو المؤطرات السردية المتحكمة فيها، إلى تطوير آليات النظرية السردية العامة في حد ذاتها، وبين الانطلاق من هذه النظرية السردية في حد ذاتها ممثلة في تصورها الكلي للنص السردي المجرد ودراسة نص السيرة الشعبية أو على الأصح دراسة النص السردي كما تحقق فيها. يقول الباحث د. سعيد يقطين في هذا الصدد ما يلي :”من جهتنا نختار الاستراتيجية الأولى ولكن من منظور يضع في الاعتبار الاستراتيجية الثانية وذلك لأننا من ناحية صغنا هاتين الاستراتيجيتين بصورة تلح على تكاملهما من حيث الجوهر”(10) ص.10. واعتمادا على تصوره المنهجي الدقيق هذا سيبدأ بتحديد خصوصية النص السردي الذي يسعى لتحليله، أي نص السيرة الشعبية عن طريق ضبط الجنس الأدبي الذي يمثله من خلال تبيان الخاصيات المتحكمة في انتمائه الجنسي هذا بغية تعيين موقعه داخل الكلام العربي كما سبق تحديده في كتابه السابق “الكلام والخبر”. وأثناء بحثه الجدي هذا نراه يقوم بضبط المصطلحات التي يستعملها ضبطا علميا صارما، محددا دلالاته عند مجموعة من السرديين أو السيميوطيقيين، خالصا إلى تقديم تحديده الخاص لها وفق رؤية شمولية ذات كفاءة إجرائية عالية، يمكن التمثيل لها في هذا الصدد بالتمييز الدقيق الذي أقامه بين مفهوم السرد والحكي، حيث نجد اغلب المشتغلين بالمجال السردي خصوصا العرب منهم يغلطون بينهما. يقول “إن الحكي عام والسرد خاص، فالحكي هو الذي ينسحب عليه مصطلح “Recit” و ” Narrative” وهو الذي يمكن أن نجده في الأعمال التخييلية، وفي الصورة والحركة وسواها. أما السرد فلا يمكن أن يتحقق إلا في الأعمال اللفظية” (11)  ص.15. ومسألة ضبط المصطلحات هي أهم عملية في السيطرة على خصوصية المنهج المتبنى من جهة والوصول إلى مكان النص المدروس وتفكيك آليات اشتغاله من جهة أخرى. انطلاقا من هنا سنجد أن  الباحث د. سعيد يقطين سيتناول وفق منهجه السردي هذا مكونات الأفعال – الوظائف في السيرة الشعبية التي اتخذها مجالا لدراسته، كما سيتناول كلا من البنيات الزمانية والبنيات الفضائية المتحكمة فيها، ليخلص في النهاية إلى إقامة تركيب مفتوح بينهما، مقدما من خلاله تصوره العام حول هذه المكونات وكيفية تجلياتها في نص السيرة الشعبية.

تأسيسا على كل ما تقدم ذكره، يمكن القول وبموضوعية كبيرة، إن المشروع النقدي – الإبستمولوجي الذي شيده الباحث د. سعيد يقطين عبر كتبه السالفة الذكر مشروع يستحق الاهتمام وجدير بكل تنويه وهو مشروع يفتح آفاقا واسعة أمام الباحثين في هذا المجال ويمكنهم عبر التفاعل معه من المساهمة في خلق نظرية للسرد العربي، متفاعلة مع النظريات السردية العالمية ومحتفظة بخصوصيتها في ذات الآن. وما العمل الذي قمنا به الآن سوى مقدمة لهذا المشروع العلمي الضخم، آملين العـودة إليه بتفصيـل أكثـر شمولية وبتفاعـل نقدي حواري أكثر ضبطا للآليات التي يشتغل بها، داعين في نفس الوقت غيرنا لمناقشته قصد الاستفـادة والإفـادة معا، خدمـة للثقافـة العربيـة بشكـل عـام وللسرديات العربية بشكل خاص.

الهوامش.

1) – Roland Barthes : Introduction à l’analyse structurale des récits in : poétique du récit.

                                    p. 7.

(2 ـ سعيد يقطين، “القراءة والتجربة”، سلسلة الدراسات النقدية، 4 دار الثقافة، الدار البيضاء ، 1985 ، ص. 9.

(3 ـ  عبد الفتاح الحجمري، السرديات في نماذج من النقد المغربي، مجلة “فكـر ونقـد”، العدد 6فبراير 1998،

        ص ص. 87 – 88.

 (4 ـ سعيد يقطين، “تحليل الخطاب الروائي”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1989، ص. 368.

(5 ـ عبد الله إبراهيم:”المتخيل السردي”، المركز الثقافي العربي، بيروت 1990، ص. 156.

(6 ـ  عبد الله إبراهيم: نفسه، ص.

 (7 ـ سعيد يقطين، “تحليل الخطاب الروائي”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1989، ص. 368.

 (8 ـ سعيد يقطين، “الكلام والخبر”، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1997، ص. 50.

(9 ـ “فال الراوي”: البنيات الحكائية في السيرة الشعبية، المركز الثقافي المغربي، الدار البيضاء 1997، ص. 10.

(10 ـ نفسه، ص. 12.

(11 ـ نفسه، ص.15.