الأدب و المؤسسة لسعيد يقطين

 

( نحو مأسسة الممارسة الأدبية )

                                                     نور الدين درموش

                                      1 .  تقديم .

                                      2 . الفاعلون في مؤسسة الأدب :

                                      1 .  عالم الأدب /الناقد/ الدارس الأدبي.

                                                       2. الصحافة الأدبية .

                                          3  . هوامش

 

1 .  تقديم

    يقف المهتم بالنتاج الثقافي المغربي، والأدبي منه خاصة، على سلبيات عدة، تطبع واقعه وتعيق تطوره، منها على الخصوص :

– موقف القارئ المغربي الذي يمدضه النكران  وعدم الاعتراف.

– موقف النقد، حيث يفضل الناقد أوالدارس الأدبي المغربي عادة، دراسة النتاجات الأدبية المشرقية بدل المغربية، انطلاقا من اعتبارات راسخة في التاريخ، تبخس من القيمة الإبداعية للأدب المغربي، باعتباره ظلا باهتا للإبداع المشرقي أو للإبداع الغربي.

– موقف المؤسسة التعليمية والجامعية بمختلف أسلاكها، والتي لا تدرجه مادة للدراسة والتحليل إلا في ما ندر.

     إن الأدب، حين يفتقد  عقب إنتاجه، حلقات الإيصال والتداول، سواء باتخاذه موضوعا للبحث والتفكير( من لدن النقاد والدارسين والجامعيين )، أو نتاجا يتفاعل معه القراء، يظل غر يبا عن محيطه، عديم الفعل فيه، فاقدا لامتداده المفترض والضروري في المجتمع والتاريخ.

  بل إن هذا الواقع يرتد سلبا على الإبداع نفسه، الذي يصبح بافتقاده محافل التتبع والتداول والتقييم، أي بافتقاده سبل التفاعل مع الآخر( ناقدا، دارسا، قارئا..)، كسيحا أو مدعيا.

  كيف السبيل إذن الى جعل الأدب المغربي مقروء ومدروسا، مبحوثا و متداولا ؟ كيف السبيل إلى توثيق صلته الفاعلة بالمجتمع والتاريخ ؟.

     إذا كان التشخيص السابق يحظى بما يشبه الإجماع، فان تفسير الظاهرة  وتعليلها، بل والبحث عن حلول لها، يطبعه الاختلاف والتباين.

  ثمة من يعزوها الى ضعف في الإبداعية المغربية ( إذ كثيرا ما تتناهى إلينا اتهامات متواترة للروائيين والشعراء والقصاصين .. بكونهم لايرتقون إلى مستوى مبدعي العالم الكبار ..)، وثمة أيضا من يلجأ إلى اعتبارات سوسيو- ثقافية أو سوسيو – اقتصادية، تعتمد في التفسير مؤشرات الأمية وضعف القدرة الشرائية للقارئ المفترض، وتراجع الاهتمام الثقافي أمام زحمة  ضغوط العيش اليومي والمهني…

  فما هي المقاربة التي يعتمدها سعيد يقطين في كتابه ” الأدب والمؤ سسة” بغية الإحاطة بمناحي المعضلة المذكورة؟.

  يمكن أن نصفها بدء بالمؤسساتية، أي بالمقاربة التي تنطلق في التفسير من ضعف في، بل وغياب لإطار مؤسساتي ينظم الممارسة الأدبية، ويحدد مكوناتها، ويوزع أدوارها، وينيط بمختلف الفاعلين  فيها مهام محددة ، وفق رؤية جديدة، سنتعرف على بعض سماتها.

  ويمكن أن نصفها ثانية بالوسائطية، بالنظر إلى غلبة الانشغال التواصلي في كتابه، أي انشغاله بالوسائط الإعلامية الواصلة بين الإبداع والقارئ ، وهو انشغال نلمسه في حديثه المختلف والمتباين عن الدرس الأدبي، وعن القارئ، وعن الصحافة الأدبية، وعن الإعلام الجامعي.

  بل إن علاقة المؤسساتي بالوسائطي متداخلة ومتضافرة ، باعتبار الأول ينظم علاقة الإبداع والقراءة والبحث الأدبي … فيما ينشغل الثاني بتوفير وتفعيل القنوات الرابطة بين أطراف هذه العلاقة.

     تكسب المؤسسة والوسائط الأدب قواما وتجذرا في  المجتمع والتاريخ، ووعيا بالذات، يستتبعه حتما النزوع الى الاشتغال وفق إواليات يستقل بها.

  يعود المؤلف خطفا الى التاريخ الأدبي العربي، ليقف على بعض المظاهر المؤسساتية التي ظلت ترافق الشاعر العربي القديم، وتبطن إبداعه بعمق التاريخ، وتشرعه على شساعة التواصل. فقام بجرد سريع لبعض تمظهرات مؤسسة الأدب القديم، من راوية ( لكل شاعر راوية )، وبيوتات أدبية، ومجالس أدبية، ووراقة ونسخ، ليلاحظ افتقاد الأدب المغربي تاريخيا- باستثناء أدب الملحون – لمثل هذه المحافل الداعمة للإبداع والتداول.

  كما يقف على غياب مؤسسة الأدب  بالمغرب، حديثا وراهنا، من خلال مظهرين اثنين :

– الارتهان الى مؤسسة الأدب في الشرق، حيث كانت المؤسسة متشكلة وذات عراقة، وحيث احتداد الصراع بين الاتجاهات الأدبية، فيما ظل الحال في المغرب يشتغل وفق صدى إيقاع السجالات الأدبية في المشرق.

  – ارتهان الأدب المغربي إلى المؤسسة السياسية، في علاقة تسمها تبعية مزمنة، أفقدته استقلال صياغة أسئلته الخاصة، واجتراح إشكالاته المتميزة.

     لقد ترتب عن غياب مؤسسة أدبية مغربية، مستقلة بمكوناتها وأدوارها ومهامها، وهن في حلقات الإبداع الأدبي، و في الدراسة والبحث والنقد والقراءة الأدبية، وباقي مظاهر الاشتغال بالأدب، من تحقيق وترجمة وتصنيف…الخ. فمن جهة الإبداع، كان بوسع المؤسسة الأدبية أن توفر للمبدع المغربي، ركائز تشده إلى المنجز الأدبي المغربي، تعقد صلات معه، سواء بالاتصال أو بالانفصال، أو بالانفصال المتصل، أوالاتصال المنفصل. وهي صلة – يعتبرها يقطين – ضرورية، لأن الإبداع الذي لا ينشد الى تاريخ إبداعي، ( رحب وعميق في الآن نفسه)،  يفقد بعد الامتداد في الزمن والتاريخ المحلي والعالمي.

      إن مظهرانقطاع تواصل الأجيال والإبداعات..، هو حسب تعبير سعيد يقطين: “أن كل مبدع يرى نفسه بلا شيخ بطريقة أو بأخرى ، وهو حين يبدع يتجاوز من سبقه من المبدعين في أي مجال”  (ص. 16 ).

  وإضافة إلى كون المؤسسة الأدبية توفر للأدب المغربي امتدادا في التاريخ، فإنها قد تمده أيضا، ببلورتها لرأي عام أدبي، بسبل التثمين و التقويم.

  من هذه الزاوية، لا تمثل المؤسسة الأدبية عائقا أمام الإبداع في الأدب، لأنها ليست مؤسسة  برانية عنه، ولأنها تهيئ بالأحرى، شروط تطوره ونمائه. قد يبدو هذا الربط المتميز بين المؤسسة والإبداع صادما لمن يعتبر الإبداع فعلا يناهض المؤسسة، حتى وإن كانت هذه المؤسسة ذات طبيعة أدبية. و بوسعنا في هذا السياق أن نخمن استشعار الأستاد يقطين لهذا النفور ” الغريزي ” من المؤسساتي، باعتباره محفل الإكراه والضبط والتوجيه، حين يؤكد عليه باعتباره محفلا للتنظيم ( تنظيم ممارسة أدبية يطبعها الخلط والفوضى، وتعدم فعالية الفعل والتأثير في المجتمع وقيمه وتصوراته)، بل ومحفلا للتطوير والتجديد. إنه يحاول أن يرسخ، انطلاقا من تصوره هذا، كون الارتقاء بالممارسة الأدبية، لا يتحقق خارج المؤسسة الأدبية والسلطة الأدبية، وإنما من داخلها:

 ” إذ لاأدب يمكن أن يبدع في غياب أو تغييب تصور ما للأدب السابق أو المؤسسة الأدبية أو السلطة الأدبية ” (ص.28)

   أو:

” إن المؤسسة الأدبية أو السلطة الأدبية،  ليستا عبئا على الأدب .وتاريخ الآداب العالمية شاهد على ذلك، قد نرفض المؤسسة والسلطة الأدبية القائمة، إذا كانتا فعلا موجودتين، لكن هذا الرفض يؤدي بالضرورة الى الدفاع عن مؤسسة جديدة وسلطة جديدة، وليس الدفاع عن الفوضى. وإذا أردنا استبعاد هذين المفهومين، قلنا لابد من وجود تقاليد أدبية محددة نعود إليها في فهم الأدب وتقويمه. قد نختلف في تعيين هده التقاليد، ولكننا لا يمكن إلا أن نتفق على جملة من المعايير التي بمقتضاها يتم التمييز بين الإبداع الحقيقي واللا إبداع ” (ص.28).

  هكذا تبدو المؤسسة الأدبية محفلا للتنظيم والتجديد والتقييم. وسنعود لاحقا لمسألة التقييم باعتبارها من أخطر الإشكالات التي تعترض المهتم بالأدب .

  

 

2 .  الفاعلون في مؤسسة الأدب:

     إن هيكلة صرح المؤسسة الأدبية يفترض بدء حصر الفاعلين فيها، وهم كثر، وتوزيع أدوارهم، وتحديد مهامهم.

  فبالإضافة إلىالمبدع، قام سعيد يقطين بتعداد جملة من الفاعلين داخل مؤسسة الأدب، هم على التوالي: عالم الأدب/ الناقد/ دارس الأدب / القارئ/ الصحفي الأدبي/ المحقق/ المصنف/ المترجم/…،   ألحق بهم، المؤسسة الجامعية الأدبية، كمؤسسة علمية يمكنها أن تنضوي تحت المؤسسة الكبرى للأدب، والإعلام الجامعي كمنبر وسائطي يتحدد دوره في النهوض بالبحث الأكاديمي الأدبي وترويجه.

 ولم يقتصر طبعا على جرد الفاعلين المحتملين أو الفعليين في المؤسسة الأدبية، بل إنه عمد من خلال رؤية جديدة، ودعما لاستقلال الممارسة الأدبية، وتعميقا “لاحترافيتها “، إلى التعريف بكل فاعل على حدة، وتحديد مهامه، بناء على تصور يتوخى تجاوز السلبيات المتراكمة نتيجة غياب المؤسسة الأدبية في الماضي، أو نتيجة ارتهان الأدب إلى المؤسسة السياسية أو الحزبية أو إلى الولاءات الشخصية والزبونية. وسنمر عفوا على بعض هذه الأدوار ، مع التركيز على بعضها دون الآخر، لما تثيره في نظرنا من  إشكالات ملتصقة أكثر بالإبداع الأدبي.

1- عالم الأدب /الناقد/ الدارس الأدبي/المتلقي.

      ثمة عبارة تتواتر في تشخيص سعيد يقطين للموقف السائد من الأدوار الموكولة افتراضا لعدد من الفاعلين. إنه موقف تبخيس وازدراء، يواجه به مثلا العالم الأدبي،  وهو نفس الموقف الذي يتم بموجبه التعامل مع الأدب في الصحافة والإعلام، ومع تحقيق التراث أوإنجاز مجاميع أدبية. فبعد التمييز بين علوم الخطاب وعلوم النص، بين تلك المختصة بتحليل الخطاب الأدبي والكشف عن قوانينه العامة، وتلك التي تتناول النص الأدبي على ضوء إحدى العلوم الانسانية (علم النفس، علم الاجتماع، الانتربولوجيا…)، يقف يقطين على رفض الممارسة العلمية ، حين يتعلق الأمر بالدراسة الأدبية والنقد الأدبي.

    لهذا الرفض مهما تعددت مظاهره، اسم يعرف به ويكشف عن طبيعته، هو  “الحذ لقة”  (بركولاج)، تلك التي نصادفها في الموقف الذي يلجأ بذريعة ممارسة التكامل المنهجي، إلى الرتق والوصل غير المؤسس والمسوغ، بين مناهج ومفاهيم تختلف في منطلقاتها النظرية وتصوراتها المنهجية الى حد التعارض أحيانا، و في الموقف الذي يقتصر، لافتقاره إلى وعي ابستمولوجي  بالنظرية والمنهج  (سنعود الى هذه النقطة لاحقا)، على الأخذ بالنتائج، ويطبقها  علىالنص العربي دون أي اعتبارمعرفي، أو دونما تلمس للخصوصية التي يمكن أن يعد بها هذا النص، وكذلك في الموقف الذي لا ينفك يتجول بين النظريات دونما سعي الى تحقيق تراكم معرفي ونقدي .

  إن القصور عن التعامل بناء على تصور منهجي ومفاهيمي محدد مع الموضوع الأدبي، يفضي حتما الى  تأبيد ممارسة راسخة في التقاليد الأدبية، المدرسية والجامعية العربية، هي ممارسة الإنشاء .

وهي ممارسة يعرفها سعيد يقطين كالتالي :

 ” إنها تجميع لمواد مختلفة ومعلومات متنافرة وصياغتها بصورة تضمن لها درجة من الانسجام المقبول، ولوعلى صعيد الشكل، مع ميل كبير الى المساجلة والتأثير في المتلقي باعتماد مختلف الوسائل . لذلك نجد العديد من المقالات والدراسات والكتب ليست سوى إنشاءات مطولة ، لايمكن في حال الرجوع اليها تحصيل معرفة أو تحقيق تراكم معرفي”.(85-86).

    تحيلنا  كتابة الإنشاء إلى علاقة الأدب بالمؤسسات التعليمية المشرقية والمغربية على السواء، والتي يشخصها يقطين بغير قليل من الصراحة والقسوة : فالمؤسسة التعليمية تصل بين فاعلين أساسيين في المؤسسة الأدبية، بين الطالب، كمتلقي أساسي للأدب، والمدرس، وصلا لا ينبني على تنمية القدرة القرائية والتحليلية للنص الأدبي لدى الطالب ، بل ينبني على إحلال التعامل الموسط مع النص محل التعامل المباشر والملموس، فيتم اللجوء إلى قراءة النص ” بواسطة المدرس من خلال الناقد”(ص.91)، ويشرع المتلقي في تقييمه، ليس تبعا لما يقرأ أو تبعا لما يلاحظ أو يستنتج، ولكن وفق ما يعرفه من آراء غيره ( وهذا يفسرتضخم اللجوء الى الاستشهادات، والتي هي علامة على عجز مزمن في القدرة على التعامل المباشر مع النص). وإذا حدث أن قرئ النص، فبقصد الاغتراف منه كخزان للشواهد، وليس كنص “كل شيء فيه له دلالة”(ص.91).

  في ظل هدا الوضع، يكون الحكم على الأدب سابقا على قراءته، ويصير المتلقي كسولا، عاجزاعن ربط صلة مباشرة مع النتاجات الأدبية، يدرس الأدب- ويالمفارقة – دون أن يقرأ الأدب!.

  بخلاف هذه الممارسة التقليدية، يدعو الأستاذ يقطين، إلى ترسيخ قيم وممارسات أدبية جديدة قوامها:

  – ” خلق المتلقي الجديد الذي يكون رأيه من خلال احتكاكه المباشر مع الظواهر والنصوص، بتصور خاص ومؤسس على قيم علمية محددة، يؤمن بإبداع المتلقي ومساهمته في تشكيل رؤيته، بعيدا عن أي توجيه مسبق، إنه تصور يتأسس على خلق قيم الإبداع والنقد، بما هوضمان لتحمل المسؤولية في السلوك  والممارسة”(ص.94).

2الصحافة الأدبية:

     يتبدى الهاجس “الميديولوجي” عند يقطين، في انشغاله بالصحافة الأدبية من جهة، وبالإعلام الجامعي من جهة ثانية.

  ثمة فاعل أساسي في هذا الصرح المؤسساتي الأدبي، لم تتشكل ملامحه بعد وفق تصور جديد، يبوئ الصحافة الأدبية دورها المتميز : إنه الصحافي الأدبي المتخصص، والذي يصادر موقعه الصحافي الطارئ على الميدان الأدبي، يكتب عن الكتاب من خلال فهرسته، أو يحاور الكاتب في العموميات غير المفيدة ،أو يستفتي محاوره في الأسئلة التي يود الأخير سماعها، أو ينشر لاعتبارات لا علاقة لها بالقيم المعرفية والادبية ( الإخوانيات وكسب النصير).

  إن النهوض بالإعلام الأدبي، باعتباره رهان نشر القيم الأدبية الجديدة ، يستدعي صحافيا لا يكتفي بالمتابعة، بل ينخرط في الواقع الأدبي، ويلم بمختلف مشاكله وقضاياه، مختصا في مايسمى ب”الإعلام الأدبي” .

      لكن هل استوفى الأستاد يقطين جميع الفاعلين في المؤسسة الأدبية، وهل حصر بشكل نهائي مختلف الأدوار والمهام التي بتراصها، يتشكل بنيانها؟.

  قد نفتقد في جرده لها محفل الناشر الأدبي أو مؤرخ الأدب . فالتاريخ الأدبي قد غير بدوره إشكالاته “اللانسونية”، وانغمر في تجديدها، بدء من مفهوم التاريخ  عند الشكلانين الروس، إلى مفهومه المتبلوربشكل أعمق وأعقد عند الهرمنوطيقيين الألمان.

  كما يمكن أن نفتقد في جرده للفاعلين الأدبيين إلى منظر الأدب، ومن خلاله إلى الاشتغال والبحث في حقل نظرية الأدب.

  لماذا نظرية الأدب؟ لأنه يفترض أن تكون ” المضاد الأدبي” لاحتمالات انغلاق المؤسسة على نفسها ، وهي احتمالات تهدد كل مؤسسة حين تتحدد قصرا على اعتباراتها الذاتية وإوالياتها المستقلة.

  سننطلق لتوضيح وجهة النظر هذه من تمييز أ.كومبانيون” في كتابه ” شيطان النظرية “(1)،بين النظرية الأدبية ونظرية الأدب: فالنظرية الأدبية، هي المفهوم الذي يطلق على النظرية الأدبية المعاصرة، بدء من الرومانسية الألمانية التي أرست المفهوم الجديد للأدبية، والتصور القائم  على إحالة الأدب على ذاته،مرورا بالشكلانية الروسية و مفهومها عن التغريب، ووصولا إلى الشعرية، كما تبلورت في البحث الأدبي الفرنسي، و خاصة حين انصب اانشغال الأبحاث السردية على معالجة طرائق المعنى، بدل المعنى.

     أما نظرية الأدب، فهي تدل بالأحرى على التفكير في شروط الأدب، وفي شروط النظرية الأدبية، والنقد الأدبي، والتاريخ الأدبي، وفي مساءلة الافتراضات الأولية، أي في البداهات التي تستبطنها هذه المعارف، بوعي أو دون وعي. وباستنطاقها لهذه الافتراضات ، تحاول نظرية الأدب أن تخلص الممارسة الأدبية (إبداعا، نظرية ، نقدا، تاريخا، رأيا عاما أدبيا ) من يقين قد يتلبسها، أو قناعة قد تجمدها، أو ادعاء قد يعشيها .

 إنها بمثابة السؤال الصاحي، الذي لا يهدأ قلقه خوفا من تحول الممارسة الأدبية، وبالتالي، المؤسسة الأدبية ، إلى سلطة متكلسة و رقابة خانقة. وهوأمرمحتم الورود .

  فحيال النقد، تطرح نظرية الأدب أسئلة  تكشف افتراضاته القبلية التي لا يدركها التصريح، من  قبل ماذا تعني(أي النظرية) بالأدب؟ ما هي معايير تقييمها له؟،

  وتجاه التاريخ الأدبي، تثير السؤال المفارق، كيف يفسربالسياق (التاريخي) موضوع انسلخ بالضبط عن سياقه، واستمرحيا بعد انقضائه ( فالأدب هو ما تقرر اعتباره منفصلا عن شروط تلفظه  وتلقيه الأول )، وتجاه النظرية الأدبية، تكشف كذلك عن افتراضات أولية من طابع آخر: هل  تحديد ” الأدبية” يشمل كل  الأدب أم بعضا منه، ويهمل الآخر.  فبالنسبة للشكلانيين الروس مثلا، هل تحديدهم للأدبية شمل كل الأدب، أم المقصود نمطا محددا فيه، أي الأدب كما فهموه وقدروه وفضلوه، أي الشعر وليس كل الشعر ، وإنما القصيدة المستقبلية التي منها استقرئ مفهوم التغريب قبل أن يسحب على العام الأدبي. كما أن الأدبية  تستبطن موقفا تقييميا، وليست عكس ما تقدم به نفسها، مجرد وصف لطرائق اشتغال المعنى الأدبي وتحديد كلياته. فالشعرية المستوحاة من الشكلانية الروسية ، تفضل العدول( الانزياح) ووعي الأدب بذاته، مقابل  المتعارف عليه أدبيا، و مقابل الواقعية في الأدب. وسيعيد ج. جنيت في كتابه   Fiction et Diction »   « النظر في مفهوم الأدبية، حين يقر أنه مفهوم لايشمل من الأدب، إلا جانبه التكويني، constitutif وليس جانبه الاحتمالي Conditionnel الذي يكون التخييل فيه منذورا لتضمن أجناس مغايرة وطارئة (كالمذكرات أوالسيرة الداتية..)، وهي أجناس تلحق بالأدب تبعا لاعتبارات مختلفة،  يمكن أن نعد من ضمنها، وربما بشكل أساسي، المواقف الجماعية المتوافقة، للمحافل المشتغلة في حقل المؤسسةالأدبية.

       بين الانطباق المحدود إذن، والقصور في الشمولية ، والتفضيلات المضمرة، يبدو مفهوم الأدبية دون رحابة واقع أدبي متنوع ومتنافرومتغير. وربما لهذا السبب، لاينبغي لها أن تكون مفهوما جوهرانيا، وإنما مفهوما ممتدا (قابلا للتوسيع والإلحاق والإضافة وربما  للحذف والبتر أيضا)، متعارف عليه ( ما دام الأمر يتوقف على المحافل التي تقرر قي زمن ما ووفق شروط ثقافية محددة التعامل مع نصوص بعينها، بمعزل عن سياقات إنتاجها الأصلي، أي باعتبارها نصوصا أدبية) .

لقد أبدينا هذه الملاحظات لسببين:

1- إن سعيد يقطين بتركيزه على الجانب الشكلي والجمالي في تقويم النصوص الأدبية، وبإناطته المؤسسة الأدبية الاضطلاع بهذه المهمة، إنما ينخرط ضمن النظرية الأدبية المعاصرة كما أشرنا باقتضاب إلى بعض تمفصلاتها، وهو بذلك يسحب وراءه نسقا تفضيليا ، ميزته الأساس، الاعتقاد في الخصوصية الأدبية، وفي” ثابت  أدبي” أو”لامتغير أدبي”.

 – 2إن مفهوم القيمه الأدبية مفهوم إشكالي(2)  . وهو يحتل موقعا أساسيا في بنيان المؤسسة الأدبية  ( فهي لا تنظم الممارسة الأدبية  بل تقيمها أيضا ) ، باعتبارها تميز، بتعبيره، الإبداع عن اللا إبداع ، ومن شأن تحديده وتدقيقه نظريا، والوعي بأبعاده الابستمولوجية والتاريخية ، والارتياب في تشكلاته المكتملة، وإدراك شروط تبلوره وسعة وحدود انطباقه، سيمكن من النظر إلى المؤسسة الأدبية، ليس بمنظور النظرية الأدبية، وإنما بمنظور نظرية الأدب ، أي ليس بمنظور خطاب نظري ونقدي .. أدبي، وإنما بمنظور نظرية حول النظرية،  ونقد للنقد.. ومن شأن ذلك أن يمد المؤسسة الأدبية بمضاد ينتسب إليها، ولا يتطفل عليها ، يحد من مخاطراكتفائها بذاتها، ويشرعها على السؤال الذي يضمن انفتاحها وتحولها .

هوامش:

1- أنطوان كومبانيون. شيطان النظرية. باريس. سوي. 1998.-

2- يكفي للإحاطة بإشكال القيمة الأدبية، التأشير على الاتجاهات الكبرى في تصورها (كما جردها أ .كمبانيون في كتابه المذكور- ص.241):

الموقف الموضوعي: يرى القيمة الأدبية متجسدة في الموضوع الأدبي، وليس في الذات المتلقية. لكنه موقف يصطدم بتنوع التقييمات واختلافها.

الموقف الذاتي: يرى أن التقويم الأدبي فعل ذاتي. ويقود هذا الموقف كما حصل مع ج.جنيت في كتابه عن الجماليات، إلى تنسيب مطلق وراديكالي لفعل التقويم، مما يؤدي في حال الاختلاف، إلى العجزعن الفصل بين الأحكام المتناقضة.

موقف بين الذات والموضوع: ينطلق شأن نظرية التلقي، من اعتبار العمل الأدبي برنامجا أوتقسيماتPartitions ، في محافظة ديالكتيكية على الإكراه والحرية في تبلورالمعنى الأدبي، لينتهي إلى التأكيد بأن التقويم الأدبي إن كان ذاتيا، فإن النص بدوره، وباعتباره برنامجا أو تقسيمات، له كذلك حظه في استصدارالتقويم ورسم ملامحه.

  وثمة من يوكل للزمن – وبالتالي لحكم القارئ الذي سيأتي لاحقا- أمر التمييز بين النصوص الأدبية حسب قيمتها وأهميتها. لكن إزاء هذا الموقف كذلك ، والذي يطمئن إلى التاريخ لينصف القيمة الأدبية، وليتوج النصوص أو يعزلها ، محاولا إياها إلى ” كلاسيكيات” تعلو قيمتها تقلبات التاريخ، من سيحول دون تحول نتاج أدبي وقد اكتسب صفة الكلاسيكية لدى جيل أو أجيال من القراء، إلى عمل أدبي ممل ومضجر بالنسبة للقراء اللاحقين(إن لم نقل عملا ضحلا؟).

  تبرز هذه الخطوط الكبرى استعصاء تحديد نظري لمفهوم القيمة الأدبية ولصعوبة حصرها . وربما يلزم في هذا السياق تجاوز التعارض بين التقويم الموضوعي أو الذاتي، أوالموضوعي- الذاتي، للموضوع الأدبي، ودراسة كيفية تشكل الالتقاءات بين أطراف فاعلة في الحقل الأدبي حول قيمة أعمال دون غيرها، تكون ناتجة عن عوامل مختلفة (…) قبل أن تتحول إلى معايير محددة بواسطة مؤسسات المدرسة ، النشر، السوق….

إن القيم الأدبية لا يمكن بناؤها أو تأسيسها نظريا، إنها إحدى حدود النظرية، وليست حدا أو حدودا للأدب”(ص.273 ).

رجوع

                                                                                            

 

الأدب و المؤسسة  لسعيد يقطين

( نحو مأسسة الممارسة الأدبية )

                                                     نور الدين درموش

                                      1 .  تقديم .

                                      2 . الفاعلون في مؤسسة الأدب :

                                      1 .  عالم الأدب /الناقد/ الدارس الأدبي.

                                                       2. الصحافة الأدبية .

                                          3  . هوامش

 

1 .  تقديم

    يقف المهتم بالنتاج الثقافي المغربي، والأدبي منه خاصة، على سلبيات عدة، تطبع واقعه وتعيق تطوره، منها على الخصوص :

– موقف القارئ المغربي الذي يمدضه النكران  وعدم الاعتراف.

– موقف النقد، حيث يفضل الناقد أوالدارس الأدبي المغربي عادة، دراسة النتاجات الأدبية المشرقية بدل المغربية، انطلاقا من اعتبارات راسخة في التاريخ، تبخس من القيمة الإبداعية للأدب المغربي، باعتباره ظلا باهتا للإبداع المشرقي أو للإبداع الغربي.

– موقف المؤسسة التعليمية والجامعية بمختلف أسلاكها، والتي لا تدرجه مادة للدراسة والتحليل إلا في ما ندر.

     إن الأدب، حين يفتقد  عقب إنتاجه، حلقات الإيصال والتداول، سواء باتخاذه موضوعا للبحث والتفكير( من لدن النقاد والدارسين والجامعيين )، أو نتاجا يتفاعل معه القراء، يظل غر يبا عن محيطه، عديم الفعل فيه، فاقدا لامتداده المفترض والضروري في المجتمع والتاريخ.

  بل إن هذا الواقع يرتد سلبا على الإبداع نفسه، الذي يصبح بافتقاده محافل التتبع والتداول والتقييم، أي بافتقاده سبل التفاعل مع الآخر( ناقدا، دارسا، قارئا..)، كسيحا أو مدعيا.

  كيف السبيل إذن الى جعل الأدب المغربي مقروء ومدروسا، مبحوثا و متداولا ؟ كيف السبيل إلى توثيق صلته الفاعلة بالمجتمع والتاريخ ؟.

     إذا كان التشخيص السابق يحظى بما يشبه الإجماع، فان تفسير الظاهرة  وتعليلها، بل والبحث عن حلول لها، يطبعه الاختلاف والتباين.

  ثمة من يعزوها الى ضعف في الإبداعية المغربية ( إذ كثيرا ما تتناهى إلينا اتهامات متواترة للروائيين والشعراء والقصاصين .. بكونهم لايرتقون إلى مستوى مبدعي العالم الكبار ..)، وثمة أيضا من يلجأ إلى اعتبارات سوسيو- ثقافية أو سوسيو – اقتصادية، تعتمد في التفسير مؤشرات الأمية وضعف القدرة الشرائية للقارئ المفترض، وتراجع الاهتمام الثقافي أمام زحمة  ضغوط العيش اليومي والمهني…

  فما هي المقاربة التي يعتمدها سعيد يقطين في كتابه ” الأدب والمؤ سسة” بغية الإحاطة بمناحي المعضلة المذكورة؟.

  يمكن أن نصفها بدء بالمؤسساتية، أي بالمقاربة التي تنطلق في التفسير من ضعف في، بل وغياب لإطار مؤسساتي ينظم الممارسة الأدبية، ويحدد مكوناتها، ويوزع أدوارها، وينيط بمختلف الفاعلين  فيها مهام محددة ، وفق رؤية جديدة، سنتعرف على بعض سماتها.

  ويمكن أن نصفها ثانية بالوسائطية، بالنظر إلى غلبة الانشغال التواصلي في كتابه، أي انشغاله بالوسائط الإعلامية الواصلة بين الإبداع والقارئ ، وهو انشغال نلمسه في حديثه المختلف والمتباين عن الدرس الأدبي، وعن القارئ، وعن الصحافة الأدبية، وعن الإعلام الجامعي.

  بل إن علاقة المؤسساتي بالوسائطي متداخلة ومتضافرة ، باعتبار الأول ينظم علاقة الإبداع والقراءة والبحث الأدبي … فيما ينشغل الثاني بتوفير وتفعيل القنوات الرابطة بين أطراف هذه العلاقة.

     تكسب المؤسسة والوسائط الأدب قواما وتجذرا في  المجتمع والتاريخ، ووعيا بالذات، يستتبعه حتما النزوع الى الاشتغال وفق إواليات يستقل بها.

  يعود المؤلف خطفا الى التاريخ الأدبي العربي، ليقف على بعض المظاهر المؤسساتية التي ظلت ترافق الشاعر العربي القديم، وتبطن إبداعه بعمق التاريخ، وتشرعه على شساعة التواصل. فقام بجرد سريع لبعض تمظهرات مؤسسة الأدب القديم، من راوية ( لكل شاعر راوية )، وبيوتات أدبية، ومجالس أدبية، ووراقة ونسخ، ليلاحظ افتقاد الأدب المغربي تاريخيا- باستثناء أدب الملحون – لمثل هذه المحافل الداعمة للإبداع والتداول.

  كما يقف على غياب مؤسسة الأدب  بالمغرب، حديثا وراهنا، من خلال مظهرين اثنين :

– الارتهان الى مؤسسة الأدب في الشرق، حيث كانت المؤسسة متشكلة وذات عراقة، وحيث احتداد الصراع بين الاتجاهات الأدبية، فيما ظل الحال في المغرب يشتغل وفق صدى إيقاع السجالات الأدبية في المشرق.

  – ارتهان الأدب المغربي إلى المؤسسة السياسية، في علاقة تسمها تبعية مزمنة، أفقدته استقلال صياغة أسئلته الخاصة، واجتراح إشكالاته المتميزة.

     لقد ترتب عن غياب مؤسسة أدبية مغربية، مستقلة بمكوناتها وأدوارها ومهامها، وهن في حلقات الإبداع الأدبي، و في الدراسة والبحث والنقد والقراءة الأدبية، وباقي مظاهر الاشتغال بالأدب، من تحقيق وترجمة وتصنيف…الخ. فمن جهة الإبداع، كان بوسع المؤسسة الأدبية أن توفر للمبدع المغربي، ركائز تشده إلى المنجز الأدبي المغربي، تعقد صلات معه، سواء بالاتصال أو بالانفصال، أو بالانفصال المتصل، أوالاتصال المنفصل. وهي صلة – يعتبرها يقطين – ضرورية، لأن الإبداع الذي لا ينشد الى تاريخ إبداعي، ( رحب وعميق في الآن نفسه)،  يفقد بعد الامتداد في الزمن والتاريخ المحلي والعالمي.

      إن مظهرانقطاع تواصل الأجيال والإبداعات..، هو حسب تعبير سعيد يقطين: “أن كل مبدع يرى نفسه بلا شيخ بطريقة أو بأخرى ، وهو حين يبدع يتجاوز من سبقه من المبدعين في أي مجال”  (ص. 16 ).

  وإضافة إلى كون المؤسسة الأدبية توفر للأدب المغربي امتدادا في التاريخ، فإنها قد تمده أيضا، ببلورتها لرأي عام أدبي، بسبل التثمين و التقويم.

  من هذه الزاوية، لا تمثل المؤسسة الأدبية عائقا أمام الإبداع في الأدب، لأنها ليست مؤسسة  برانية عنه، ولأنها تهيئ بالأحرى، شروط تطوره ونمائه. قد يبدو هذا الربط المتميز بين المؤسسة والإبداع صادما لمن يعتبر الإبداع فعلا يناهض المؤسسة، حتى وإن كانت هذه المؤسسة ذات طبيعة أدبية. و بوسعنا في هذا السياق أن نخمن استشعار الأستاد يقطين لهذا النفور ” الغريزي ” من المؤسساتي، باعتباره محفل الإكراه والضبط والتوجيه، حين يؤكد عليه باعتباره محفلا للتنظيم ( تنظيم ممارسة أدبية يطبعها الخلط والفوضى، وتعدم فعالية الفعل والتأثير في المجتمع وقيمه وتصوراته)، بل ومحفلا للتطوير والتجديد. إنه يحاول أن يرسخ، انطلاقا من تصوره هذا، كون الارتقاء بالممارسة الأدبية، لا يتحقق خارج المؤسسة الأدبية والسلطة الأدبية، وإنما من داخلها:

 ” إذ لاأدب يمكن أن يبدع في غياب أو تغييب تصور ما للأدب السابق أو المؤسسة الأدبية أو السلطة الأدبية ” (ص.28)

   أو:

” إن المؤسسة الأدبية أو السلطة الأدبية،  ليستا عبئا على الأدب .وتاريخ الآداب العالمية شاهد على ذلك، قد نرفض المؤسسة والسلطة الأدبية القائمة، إذا كانتا فعلا موجودتين، لكن هذا الرفض يؤدي بالضرورة الى الدفاع عن مؤسسة جديدة وسلطة جديدة، وليس الدفاع عن الفوضى. وإذا أردنا استبعاد هذين المفهومين، قلنا لابد من وجود تقاليد أدبية محددة نعود إليها في فهم الأدب وتقويمه. قد نختلف في تعيين هده التقاليد، ولكننا لا يمكن إلا أن نتفق على جملة من المعايير التي بمقتضاها يتم التمييز بين الإبداع الحقيقي واللا إبداع ” (ص.28).

  هكذا تبدو المؤسسة الأدبية محفلا للتنظيم والتجديد والتقييم. وسنعود لاحقا لمسألة التقييم باعتبارها من أخطر الإشكالات التي تعترض المهتم بالأدب .

  

 

2 .  الفاعلون في مؤسسة الأدب:

     إن هيكلة صرح المؤسسة الأدبية يفترض بدء حصر الفاعلين فيها، وهم كثر، وتوزيع أدوارهم، وتحديد مهامهم.

  فبالإضافة إلىالمبدع، قام سعيد يقطين بتعداد جملة من الفاعلين داخل مؤسسة الأدب، هم على التوالي: عالم الأدب/ الناقد/ دارس الأدب / القارئ/ الصحفي الأدبي/ المحقق/ المصنف/ المترجم/…،   ألحق بهم، المؤسسة الجامعية الأدبية، كمؤسسة علمية يمكنها أن تنضوي تحت المؤسسة الكبرى للأدب، والإعلام الجامعي كمنبر وسائطي يتحدد دوره في النهوض بالبحث الأكاديمي الأدبي وترويجه.

 ولم يقتصر طبعا على جرد الفاعلين المحتملين أو الفعليين في المؤسسة الأدبية، بل إنه عمد من خلال رؤية جديدة، ودعما لاستقلال الممارسة الأدبية، وتعميقا “لاحترافيتها “، إلى التعريف بكل فاعل على حدة، وتحديد مهامه، بناء على تصور يتوخى تجاوز السلبيات المتراكمة نتيجة غياب المؤسسة الأدبية في الماضي، أو نتيجة ارتهان الأدب إلى المؤسسة السياسية أو الحزبية أو إلى الولاءات الشخصية والزبونية. وسنمر عفوا على بعض هذه الأدوار ، مع التركيز على بعضها دون الآخر، لما تثيره في نظرنا من  إشكالات ملتصقة أكثر بالإبداع الأدبي.

1- عالم الأدب /الناقد/ الدارس الأدبي/المتلقي.

      ثمة عبارة تتواتر في تشخيص سعيد يقطين للموقف السائد من الأدوار الموكولة افتراضا لعدد من الفاعلين. إنه موقف تبخيس وازدراء، يواجه به مثلا العالم الأدبي،  وهو نفس الموقف الذي يتم بموجبه التعامل مع الأدب في الصحافة والإعلام، ومع تحقيق التراث أوإنجاز مجاميع أدبية. فبعد التمييز بين علوم الخطاب وعلوم النص، بين تلك المختصة بتحليل الخطاب الأدبي والكشف عن قوانينه العامة، وتلك التي تتناول النص الأدبي على ضوء إحدى العلوم الانسانية (علم النفس، علم الاجتماع، الانتربولوجيا…)، يقف يقطين على رفض الممارسة العلمية ، حين يتعلق الأمر بالدراسة الأدبية والنقد الأدبي.

    لهذا الرفض مهما تعددت مظاهره، اسم يعرف به ويكشف عن طبيعته، هو  “الحذ لقة”  (بركولاج)، تلك التي نصادفها في الموقف الذي يلجأ بذريعة ممارسة التكامل المنهجي، إلى الرتق والوصل غير المؤسس والمسوغ، بين مناهج ومفاهيم تختلف في منطلقاتها النظرية وتصوراتها المنهجية الى حد التعارض أحيانا، و في الموقف الذي يقتصر، لافتقاره إلى وعي ابستمولوجي  بالنظرية والمنهج  (سنعود الى هذه النقطة لاحقا)، على الأخذ بالنتائج، ويطبقها  علىالنص العربي دون أي اعتبارمعرفي، أو دونما تلمس للخصوصية التي يمكن أن يعد بها هذا النص، وكذلك في الموقف الذي لا ينفك يتجول بين النظريات دونما سعي الى تحقيق تراكم معرفي ونقدي .

  إن القصور عن التعامل بناء على تصور منهجي ومفاهيمي محدد مع الموضوع الأدبي، يفضي حتما الى  تأبيد ممارسة راسخة في التقاليد الأدبية، المدرسية والجامعية العربية، هي ممارسة الإنشاء .

وهي ممارسة يعرفها سعيد يقطين كالتالي :

 ” إنها تجميع لمواد مختلفة ومعلومات متنافرة وصياغتها بصورة تضمن لها درجة من الانسجام المقبول، ولوعلى صعيد الشكل، مع ميل كبير الى المساجلة والتأثير في المتلقي باعتماد مختلف الوسائل . لذلك نجد العديد من المقالات والدراسات والكتب ليست سوى إنشاءات مطولة ، لايمكن في حال الرجوع اليها تحصيل معرفة أو تحقيق تراكم معرفي”.(85-86).

    تحيلنا  كتابة الإنشاء إلى علاقة الأدب بالمؤسسات التعليمية المشرقية والمغربية على السواء، والتي يشخصها يقطين بغير قليل من الصراحة والقسوة : فالمؤسسة التعليمية تصل بين فاعلين أساسيين في المؤسسة الأدبية، بين الطالب، كمتلقي أساسي للأدب، والمدرس، وصلا لا ينبني على تنمية القدرة القرائية والتحليلية للنص الأدبي لدى الطالب ، بل ينبني على إحلال التعامل الموسط مع النص محل التعامل المباشر والملموس، فيتم اللجوء إلى قراءة النص ” بواسطة المدرس من خلال الناقد”(ص.91)، ويشرع المتلقي في تقييمه، ليس تبعا لما يقرأ أو تبعا لما يلاحظ أو يستنتج، ولكن وفق ما يعرفه من آراء غيره ( وهذا يفسرتضخم اللجوء الى الاستشهادات، والتي هي علامة على عجز مزمن في القدرة على التعامل المباشر مع النص). وإذا حدث أن قرئ النص، فبقصد الاغتراف منه كخزان للشواهد، وليس كنص “كل شيء فيه له دلالة”(ص.91).

  في ظل هدا الوضع، يكون الحكم على الأدب سابقا على قراءته، ويصير المتلقي كسولا، عاجزاعن ربط صلة مباشرة مع النتاجات الأدبية، يدرس الأدب- ويالمفارقة – دون أن يقرأ الأدب!.

  بخلاف هذه الممارسة التقليدية، يدعو الأستاذ يقطين، إلى ترسيخ قيم وممارسات أدبية جديدة قوامها:

  – ” خلق المتلقي الجديد الذي يكون رأيه من خلال احتكاكه المباشر مع الظواهر والنصوص، بتصور خاص ومؤسس على قيم علمية محددة، يؤمن بإبداع المتلقي ومساهمته في تشكيل رؤيته، بعيدا عن أي توجيه مسبق، إنه تصور يتأسس على خلق قيم الإبداع والنقد، بما هوضمان لتحمل المسؤولية في السلوك  والممارسة”(ص.94).

2الصحافة الأدبية:

     يتبدى الهاجس “الميديولوجي” عند يقطين، في انشغاله بالصحافة الأدبية من جهة، وبالإعلام الجامعي من جهة ثانية.

  ثمة فاعل أساسي في هذا الصرح المؤسساتي الأدبي، لم تتشكل ملامحه بعد وفق تصور جديد، يبوئ الصحافة الأدبية دورها المتميز : إنه الصحافي الأدبي المتخصص، والذي يصادر موقعه الصحافي الطارئ على الميدان الأدبي، يكتب عن الكتاب من خلال فهرسته، أو يحاور الكاتب في العموميات غير المفيدة ،أو يستفتي محاوره في الأسئلة التي يود الأخير سماعها، أو ينشر لاعتبارات لا علاقة لها بالقيم المعرفية والادبية ( الإخوانيات وكسب النصير).

  إن النهوض بالإعلام الأدبي، باعتباره رهان نشر القيم الأدبية الجديدة ، يستدعي صحافيا لا يكتفي بالمتابعة، بل ينخرط في الواقع الأدبي، ويلم بمختلف مشاكله وقضاياه، مختصا في مايسمى ب”الإعلام الأدبي” .

      لكن هل استوفى الأستاد يقطين جميع الفاعلين في المؤسسة الأدبية، وهل حصر بشكل نهائي مختلف الأدوار والمهام التي بتراصها، يتشكل بنيانها؟.

  قد نفتقد في جرده لها محفل الناشر الأدبي أو مؤرخ الأدب . فالتاريخ الأدبي قد غير بدوره إشكالاته “اللانسونية”، وانغمر في تجديدها، بدء من مفهوم التاريخ  عند الشكلانين الروس، إلى مفهومه المتبلوربشكل أعمق وأعقد عند الهرمنوطيقيين الألمان.

  كما يمكن أن نفتقد في جرده للفاعلين الأدبيين إلى منظر الأدب، ومن خلاله إلى الاشتغال والبحث في حقل نظرية الأدب.

  لماذا نظرية الأدب؟ لأنه يفترض أن تكون ” المضاد الأدبي” لاحتمالات انغلاق المؤسسة على نفسها ، وهي احتمالات تهدد كل مؤسسة حين تتحدد قصرا على اعتباراتها الذاتية وإوالياتها المستقلة.

  سننطلق لتوضيح وجهة النظر هذه من تمييز أ.كومبانيون” في كتابه ” شيطان النظرية “(1)،بين النظرية الأدبية ونظرية الأدب: فالنظرية الأدبية، هي المفهوم الذي يطلق على النظرية الأدبية المعاصرة، بدء من الرومانسية الألمانية التي أرست المفهوم الجديد للأدبية، والتصور القائم  على إحالة الأدب على ذاته،مرورا بالشكلانية الروسية و مفهومها عن التغريب، ووصولا إلى الشعرية، كما تبلورت في البحث الأدبي الفرنسي، و خاصة حين انصب اانشغال الأبحاث السردية على معالجة طرائق المعنى، بدل المعنى.

     أما نظرية الأدب، فهي تدل بالأحرى على التفكير في شروط الأدب، وفي شروط النظرية الأدبية، والنقد الأدبي، والتاريخ الأدبي، وفي مساءلة الافتراضات الأولية، أي في البداهات التي تستبطنها هذه المعارف، بوعي أو دون وعي. وباستنطاقها لهذه الافتراضات ، تحاول نظرية الأدب أن تخلص الممارسة الأدبية (إبداعا، نظرية ، نقدا، تاريخا، رأيا عاما أدبيا ) من يقين قد يتلبسها، أو قناعة قد تجمدها، أو ادعاء قد يعشيها .

 إنها بمثابة السؤال الصاحي، الذي لا يهدأ قلقه خوفا من تحول الممارسة الأدبية، وبالتالي، المؤسسة الأدبية ، إلى سلطة متكلسة و رقابة خانقة. وهوأمرمحتم الورود .

  فحيال النقد، تطرح نظرية الأدب أسئلة  تكشف افتراضاته القبلية التي لا يدركها التصريح، من  قبل ماذا تعني(أي النظرية) بالأدب؟ ما هي معايير تقييمها له؟،

  وتجاه التاريخ الأدبي، تثير السؤال المفارق، كيف يفسربالسياق (التاريخي) موضوع انسلخ بالضبط عن سياقه، واستمرحيا بعد انقضائه ( فالأدب هو ما تقرر اعتباره منفصلا عن شروط تلفظه  وتلقيه الأول )، وتجاه النظرية الأدبية، تكشف كذلك عن افتراضات أولية من طابع آخر: هل  تحديد ” الأدبية” يشمل كل  الأدب أم بعضا منه، ويهمل الآخر.  فبالنسبة للشكلانيين الروس مثلا، هل تحديدهم للأدبية شمل كل الأدب، أم المقصود نمطا محددا فيه، أي الأدب كما فهموه وقدروه وفضلوه، أي الشعر وليس كل الشعر ، وإنما القصيدة المستقبلية التي منها استقرئ مفهوم التغريب قبل أن يسحب على العام الأدبي. كما أن الأدبية  تستبطن موقفا تقييميا، وليست عكس ما تقدم به نفسها، مجرد وصف لطرائق اشتغال المعنى الأدبي وتحديد كلياته. فالشعرية المستوحاة من الشكلانية الروسية ، تفضل العدول( الانزياح) ووعي الأدب بذاته، مقابل  المتعارف عليه أدبيا، و مقابل الواقعية في الأدب. وسيعيد ج. جنيت في كتابه   Fiction et Diction »   « النظر في مفهوم الأدبية، حين يقر أنه مفهوم لايشمل من الأدب، إلا جانبه التكويني، constitutif وليس جانبه الاحتمالي Conditionnel الذي يكون التخييل فيه منذورا لتضمن أجناس مغايرة وطارئة (كالمذكرات أوالسيرة الداتية..)، وهي أجناس تلحق بالأدب تبعا لاعتبارات مختلفة،  يمكن أن نعد من ضمنها، وربما بشكل أساسي، المواقف الجماعية المتوافقة، للمحافل المشتغلة في حقل المؤسسةالأدبية.

       بين الانطباق المحدود إذن، والقصور في الشمولية ، والتفضيلات المضمرة، يبدو مفهوم الأدبية دون رحابة واقع أدبي متنوع ومتنافرومتغير. وربما لهذا السبب، لاينبغي لها أن تكون مفهوما جوهرانيا، وإنما مفهوما ممتدا (قابلا للتوسيع والإلحاق والإضافة وربما  للحذف والبتر أيضا)، متعارف عليه ( ما دام الأمر يتوقف على المحافل التي تقرر قي زمن ما ووفق شروط ثقافية محددة التعامل مع نصوص بعينها، بمعزل عن سياقات إنتاجها الأصلي، أي باعتبارها نصوصا أدبية) .

لقد أبدينا هذه الملاحظات لسببين:

1- إن سعيد يقطين بتركيزه على الجانب الشكلي والجمالي في تقويم النصوص الأدبية، وبإناطته المؤسسة الأدبية الاضطلاع بهذه المهمة، إنما ينخرط ضمن النظرية الأدبية المعاصرة كما أشرنا باقتضاب إلى بعض تمفصلاتها، وهو بذلك يسحب وراءه نسقا تفضيليا ، ميزته الأساس، الاعتقاد في الخصوصية الأدبية، وفي” ثابت  أدبي” أو”لامتغير أدبي”.

 – 2إن مفهوم القيمه الأدبية مفهوم إشكالي(2)  . وهو يحتل موقعا أساسيا في بنيان المؤسسة الأدبية  ( فهي لا تنظم الممارسة الأدبية  بل تقيمها أيضا ) ، باعتبارها تميز، بتعبيره، الإبداع عن اللا إبداع ، ومن شأن تحديده وتدقيقه نظريا، والوعي بأبعاده الابستمولوجية والتاريخية ، والارتياب في تشكلاته المكتملة، وإدراك شروط تبلوره وسعة وحدود انطباقه، سيمكن من النظر إلى المؤسسة الأدبية، ليس بمنظور النظرية الأدبية، وإنما بمنظور نظرية الأدب ، أي ليس بمنظور خطاب نظري ونقدي .. أدبي، وإنما بمنظور نظرية حول النظرية،  ونقد للنقد.. ومن شأن ذلك أن يمد المؤسسة الأدبية بمضاد ينتسب إليها، ولا يتطفل عليها ، يحد من مخاطراكتفائها بذاتها، ويشرعها على السؤال الذي يضمن انفتاحها وتحولها .

هوامش:

1- أنطوان كومبانيون. شيطان النظرية. باريس. سوي. 1998.-

2- يكفي للإحاطة بإشكال القيمة الأدبية، التأشير على الاتجاهات الكبرى في تصورها (كما جردها أ .كمبانيون في كتابه المذكور- ص.241):

الموقف الموضوعي: يرى القيمة الأدبية متجسدة في الموضوع الأدبي، وليس في الذات المتلقية. لكنه موقف يصطدم بتنوع التقييمات واختلافها.

الموقف الذاتي: يرى أن التقويم الأدبي فعل ذاتي. ويقود هذا الموقف كما حصل مع ج.جنيت في كتابه عن الجماليات، إلى تنسيب مطلق وراديكالي لفعل التقويم، مما يؤدي في حال الاختلاف، إلى العجزعن الفصل بين الأحكام المتناقضة.

موقف بين الذات والموضوع: ينطلق شأن نظرية التلقي، من اعتبار العمل الأدبي برنامجا أوتقسيماتPartitions ، في محافظة ديالكتيكية على الإكراه والحرية في تبلورالمعنى الأدبي، لينتهي إلى التأكيد بأن التقويم الأدبي إن كان ذاتيا، فإن النص بدوره، وباعتباره برنامجا أو تقسيمات، له كذلك حظه في استصدارالتقويم ورسم ملامحه.

  وثمة من يوكل للزمن – وبالتالي لحكم القارئ الذي سيأتي لاحقا- أمر التمييز بين النصوص الأدبية حسب قيمتها وأهميتها. لكن إزاء هذا الموقف كذلك ، والذي يطمئن إلى التاريخ لينصف القيمة الأدبية، وليتوج النصوص أو يعزلها ، محاولا إياها إلى ” كلاسيكيات” تعلو قيمتها تقلبات التاريخ، من سيحول دون تحول نتاج أدبي وقد اكتسب صفة الكلاسيكية لدى جيل أو أجيال من القراء، إلى عمل أدبي ممل ومضجر بالنسبة للقراء اللاحقين(إن لم نقل عملا ضحلا؟).

  تبرز هذه الخطوط الكبرى استعصاء تحديد نظري لمفهوم القيمة الأدبية ولصعوبة حصرها . وربما يلزم في هذا السياق تجاوز التعارض بين التقويم الموضوعي أو الذاتي، أوالموضوعي- الذاتي، للموضوع الأدبي، ودراسة كيفية تشكل الالتقاءات بين أطراف فاعلة في الحقل الأدبي حول قيمة أعمال دون غيرها، تكون ناتجة عن عوامل مختلفة (…) قبل أن تتحول إلى معايير محددة بواسطة مؤسسات المدرسة ، النشر، السوق….

إن القيم الأدبية لا يمكن بناؤها أو تأسيسها نظريا، إنها إحدى حدود النظرية، وليست حدا أو حدودا للأدب”(ص.273 ).