“المؤسسة الأدبية” إلى أين تسير؟!

ذ . حسن إغلان

جريدة الرياض

Thursday 11 December 2003 No. 12956 Year 39

الخميس 17 شوال 1424العدد 12956 السنة 39

 

 

     يسير الأستاذ سعيد يقطين بخطاه المعهودة، في رسم مجال آخر من مجالاتنا الثقافية، ظل إلى حدّ ما مبعداً ومسكوتاً عنه في سياق تداولنا الثقافي، يسير بجرأة الباحث في اختراق مغامرة البحث، لا ليجيب على أسئلة مطروحة، بل لإيقاظ الأسئلة، رغم أن السياق الأدبي لا يطرح السؤال، بقدر ما يبحث عن إصدار الأحكام والقيم، إنطلاقاً من المعيار الذي يحدده الأدب لنفسه. جرأة الباحث، تكمن في السؤال الذي طرحه في تقديمه. وهو السؤال الذي يحمله أي مثقف عربي، بل بالأحرى أي مواطن عربي حين النظر إلى البيانات الصادرة في ترتيب الدول، أو ما يمكن تسميته ببورصة الدول، في زمن اكتساح “العولمة”، إنه الوضع الذي يحدد العرب دولاً في ترتيب العالم، لا أحد يختلف في كون وضيعتنا جد مأساوية على هذا المستوى، في كل المجالات، وبدون استثناء… لذا لا مناص لوضع هذا الراهن الذي نعيشه كمغاربة وكعرب في سؤال للتفكير فيه ، دون السقوط في الرؤى الجاهزة والأفكار المسبقة.

      إن التفكير في الوضع، لا يستقيم إلا بالتفكير في الوطن، وكل الموضوعات المتناسلة في/من رحمه، كالديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها.. والسبيل إلى هذا، يُرجعه أكثر الباحثين والمفكرين والمثقفين إلى سؤال القضية الثقافية. هنا يليق بنا طرح مجموعة من الأسئلة في هذا النوع من المقاربات، مثل: لماذا التركيز على الثقافي Le Culturel؟ وهل المسألة تعود إلى اهتمام هذا الباحث أو ذاك، أم في النظر إليها كمثلات رمزية في تبادل المعاني والإشارات؟ وإذا كان الأمر كذلك، فالاعتماد على هذا الأساس، يجد مرجعه وغاياته في كيفية ترسيخ قيم الحداثة؟ وهل العودة إلى القضية الثقافية هو نوع من تحرير سلطة الدولة منها؟ ومن تغييبها أو رسم غاياتها السياسية الضيقة؟ إن تحرير القضية من هذه المستبقات، لا يتم إلا بالنظر إلى المسألة الثقافية كمسألة إنسانية، لما تفيده الكلمة من مرجعيات الحداثة.

إنطلاقاً من هذه القضية، يروم بحث الدكتور يقطين في قضية أساسية، ظلت مغيبة ولا مفكر فيها في التداول الثقافي المغربي والعربي، اعني بها مسألة “المؤسسة” الأدبية. وهنا يمكن طرح سؤال أولي رابط بين المقدمة والفصول المتتالية للكتاب، وهي ما علاقة الوضع العربي الراهن والمؤسسة الأدبية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هو متابعة فصول الكتاب. ولكن في جزئية أساسية يضعها الباحث في سطوره الأولي من الجزء الأول من هذا الكتاب في صيغة سؤال: “كيف يمكن ان نتصور انتاجاً أدبياً ما دون أن يكون هذا الانتاج متصلاً اتصالاً وثيقاً بالمسألة الثقافية؟” ص13، إن تغييب هذا السؤال يتجلى فيما يجسده الأدب من إنتاج جمالي وفني وأخلاقي.. وإذا كان الأمر كذلك، فالبحث سيكون متوازياً بين المغرب والمشرق (الأدب العربي). والربط بين الأدب العربي في المغرب والمشرق، له ما يبرره سواء عند الصورة الدونية للقارئ المغربي، أو عند الكاتب المغربي، فالأول يعتبر أدبه المغربي دون المستوى، والثاني يرى في إنتاجه غير ذي صدى، سواء عند النقاد أو القراء، والمسألة تلك ليست حديثة، بل هي موغلة في القدم حسب الباحث.

لذا يفترض طرق هذا الموضوع بالبحث والمساءلة والتفكير بطرائق مغايرة ومقاصد جديدة. بشرط النظر في الأدب من جهة وبالكاتب المغربي، كمنتج لخطاب له خصوصية متميزة، بعيداً عن اكراهات الذات اليومية والواقعية وما تحمله من ملابسات شخصية أو مذهبية، من جهة ثانية، هنا يطرح “المؤسسة الأدبية” في سياقها التداولي والتاريخي، وهنا يطرح الباحث سؤالاً أو مجموعة من الأسئلة الافتراضية تجتمع في جملة واحدة: “هل يمكننا الحديث عن “المؤسسة الأدبية” في تقاليدنا وتاريخنا الأدبي المغربي؟ص16، يجيب باختزال عدم استناد الأدب المغربي إلى “المؤسسة” وهذه هي مشكلته الجوهرية، بمعنى أنه لا يمتلك تقاليد في الانتاج والتداول الأدبي، كما نجده في الشرق قديمه وحديثه، وهذا لا يعني انه ليس لديه تصوراً للمؤسسة، ويتضح هذا بجلاء في كون الأدب المغربي المكتوب بالعربية يظل نموذجه الأمثل في الأدب العربي والعكس صحيح بالنسبة للأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. يشكل النموذج إذن سلطة قاهرة على الأدب والكاتب معاً، وبالتالي فعملية التمرد على الأدب، لم تكن مستساغة، وإن كان الوعي بها، قديماً وحديثاً، ففي المشرق كانت “المؤسسة الأدبية” ولها تاريخها، يتضح ذلك في الصراع بين الاتجاهات والتصورات والمدارس، كما “أن تاريخ الأشكال الأدبية ليس في رأيي غير تاريخ انتقال المؤسسات المختلفة وتبدل وظائفها في علاقاتها بالأدب”ص 18.وجود الاختلاف في التداول الثقافي بين المشرق والمغرب، سواء على مستوى الإنتاج، والتمركز، والطباعة، وأدوات التواصل، والقيم الإعلامية، كلها دأبت إلى ترسيخ هذا البون. فقط إذا نظرنا إلى النقاش الدائر في المشرق العربي إبان منتصف القرن الماضي حول الشعر الحر، فالمغرب لم يدخل هذا النقاش، وإن دخله، فبشكل محتشم، وليس داخل الصراع الدائر آنذاك، ويظهر الاختلاف كذلك في مكونات المؤسسة الأدبية، إذ نجد أن المؤسسة تتكون من تشكيلها البسيط، والأولي في العلاقة الموجودة بين الراوي والشاعر، وفي القرابة العائلية التي تجمع الشاعر بشعراء آخرين وبقراء مفترضين داخل مجالس السلطة (الأمير، الوالي..). إن هذه القرابة العائلية هي التي تضفي على الاتجاه سلالة رمزية خاصة به، وهكذا، يتولد من هذا الاختلاف، انزياح الأدب المغربي، نحو تأكيد الخصوصية والتميز، وهذا ما يشير إليه أدب الملحون، باعتباره صورة مغايرة للمؤسسة الأدبية في المشرق، ولما يشكله أدب الملحون من طقوس حضرية – صوفية، يفترض وجود الشيخ ومريديه – وبالتالي ينتج إنتاجاً غنائياً شعريا، له جمالياته الخاصة، لكن غياب “المؤسسة الأدبية” في الراهن الأدبي المغربي، له ما يبرره في الانتاج الأدبي والقراءة، إضافة إلى أن المبدع يجد نفسه بلا “شيخ”، والمستوى النقدي يشتكي من غياب التواصل بين النقاد، فكل ناقد يعيش في جزيرته الخاصة. أما القارئ المغربي فيكون ارتباطه بنجيب محفوظ وحنا مينه وعبدالرحمن منيف ومحمود درويش وأدونيس والسياب دون النظر إلى الأدب المغربي. وهذا واقع يعيشه الراهن الثقافي المغربي، دون مزايدة أو افتراء، لذا لزم التفكير والمساءلة.

     هكذا يحاول الدكتور يقطين تشخيص المسألة الثقافية، من حيث التحولات التي أحدثتها، وفي الأسئلة التي وضعتها، سواء على مستوى تاريخها – أو مكوناتها، لذا يقتضي في هذا التشخيص بعد النظر، المرتبطة بممارسة ثقافية، سار على منوالها جيل بكامله، وقد لامست تلك التحولات القيم ودور المثقف، بل ماهيته، وخلق شروط جديدة للعمل الثقافي وفق أقانيم خطابية جديدة: كالخطاب الفرنكفوني، والخطاب النسائي، والخطاب الأمازيغي، واللغوي، وغيرها من الخطابات التي بدأت تشكل أقاليم منعزلة عن بعضها منذ منتصف الثمانينيات. إن تلك التحولات، تستدعي الأسئلة/ السؤال المقلق: “ماذا نريد؟ ولماذا؟ وبأي منظور؟”ص 35.كثيرة هي مناحي التحولات التي وقعت بعد انهيارات الحلم الجماعي للمثقف المناضل – الفرد بصيغة الجمع – وبالتالي وجب النظر إلى المسألة الثقافية بعيون مغايرة، تضع هذه التحولات في الحسبان – ولعل أهم القضايا التي شغلت بال الكثير من المثقفين، هي العلاقة بين السياسي والثقافي خلال مرحلة معينة، وخلف فضاءات جديدة ومثقف جديد يروم إلى استثمار رأسماله الرمزي إلى رأسمال مادي في سبيل مصلحته. ولعل حدود هذه العلائق هي ما تعبر عنه الانتاجات الأدبية للعقد الأخير من القرن الماضي والمجملة في إزالة اللثام على مرحلة سياسية سابقة، وبالضبط ما تعودنا على تسميته ب “أدب السجون”.

علاقة الثقافي بالسياسي، موضوع لا زال مطروحاً في الساحة الثقافية المغربية والعربية، وسيحاول د. سعيد يقطين تشخيص هذه العلاقة وفق الصراع السياسي والاجتماعي الذي ساد المغرب في الستينات ، وخاصة مرحلة السبعينات . ولا أحد من الفاعلين الثقافيين ينفي تلك العلاقة، وما انتجته من أفكار وتوجهات سياسية في عمومها.. وهكذا يقف المؤلف عند جمعية اتحاد كتاب المغرب، مشخصاً تاريخها، ومنتقداً ما آلت إليه، في ظل التحولات السابقة التي حدثت في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، لذا يقترح تجاوز هذه المرحلة، برؤية جديدة مغايرة لما سبق، والانصات إلى التحولات الوطنية والقومية والدولية.. كما تجد تلك العلاقة تجلياتها في السياق الأدبي المغربي – قديمه وحديثه – سواء على مستوى تصينفه. الأدب المغربي مع بداية الاستقلال بالأدب الوطني في مقابل الخيانة، أو في مرحلة السبعينيات بالأدب التقدمي في مقابل الأدب الرجعي أو البرجوازي. كل هذا يترك باب الهوية مشرعاً،، وهذا التصصنيف يجعل الأدب المغربي معتماً، وغير واضح المعالم، نظراً للالتباس الحاصل في عمقه، والذي يفتح الباب للمواقف الجاهزة. وهذه الأخيرة – حسب الاستاذ يقطين – “لا علاقة لها بالطبيعة الأدبية التي يتميز به الأدب الحقيقي عن غيره”ص 56.يلامس الأستاذ سعيد يقطين تشخيصه للوضع الأدبي المغربي والعربي في مجالاته الواسعة سواء على المستوى النقد الأكاديمي أو الإعلامي، أو على مستوى التلقي.. بوضع أسئلة قلقة تروم إلى تفجير البداهات التي تعود عليها الدارس الأدبي أو متلقي الخطاب الأدبي (الطالب) ولعل أهم قضية يمكن الإشارة إليها وفق هذا التشخيص هي العلاقة التي تربط بين الأدب والعلوم.. إن العلاقة تلك وما تفرضه من أدوات اجرائية وجدت نفسها في التداول الأدبي رفضاً واستهجاناً من لدن الكثيرين، لهذا – فواقعنا – حسب الباحث – لا يحتاج إليح كبير جهد للبرهنة عليه، إننا منذ عصر النهضة، وإلى الآن، نرحب بالعمل العلمي وأحياناً تتم الدعوة إليه، ولكننا في الوقت ذاته، نصادر البحث العلمي، لا تعني العلاقة تلك – في دودها المضبوطة علمياً – بما تفترضه أي نظرية علمية في تمثلها ومعرفة ضوابطها، والكيفية التي تشتغل بها، بل هو يشتغل بنتائجها، وهذا حسب الباحث “أهم العوائق التي تحول دون تطور وعينا الأدبي” ص 90إن غياب التمثل النقدي للفطرية العلمية، والتوقف عند نتائجها – من لدن الناقد – ستثير أسئلة المشتغل بالأدب من قبيل من نحن؟ ماذا نريد؟ ولأي غاية؟…

      لكن الإجابة عن هذه الأسئلة ستكون لا محالة مؤسسة على تصور معين، لذا فإننا “لا نكون سوى محذلقي الأدب”ص 67.إن هذه “الحذلقة” هي التي تشكل البنية الناظمة في الوعي النقدي العربي (التقليدي منه خاصة)،سواء قديماً أو راهناً.. ويكتسي طابعاً واضحاً في سياقنا الأدبي.. كالأخذ بالمصطلحات الأدبية الجديدة المولدة من رحم العلوم الجديدة في الغرب.. دون الوعي بخلفياتها العامية، وإطارها النظري، كما أنها (أي الحذلقة) تكتفي بالجاهز في الإنتاج المعرفي.. وتوظيف نتائجها.. إن كل هذا هو ما جعل انتاجنا النقدي يعيش لبُساً مضاعفاً.. وهذا ما يتضح في كون “أبو نواس نرجسياً مع العقاد والرواية العربية ما بعد هزيمة حزيران  67تعبير بورجوازي صغير عن الرؤية المأساوية للعالم… الخ”ص 76إن هذا النوع من الاشتغال النقدي لا يمكن أن يؤسس علماً.. وإن كان التأسيس ذاك يجد فضاءه الرحب في المؤسسة الأكاديمية.

        إن هيمنة ا”الحذلقة الأدبية” كامنة على طول الوطن العربي وعرضه.. إن الباحث يجد في الشكل الذي يقدم به الدرس الأدبي في علاقته بالطالب. يشيراً إلى الأزمة الحقيقية التي يعاني منها نظامنا التربوي والتعليمي.. والتوقف عند مكامن الخلل في هذه الأزمة، وهي كثيرة في إشاراتها، وسيادة بلاغة “الشواهد” و”الأحكام” وأبعاد التحليل والنقد.. وغيره من الأدوات العقلانية.. فالطالب الغربي مثلاً أو العربي يعرف كل شيء عن نجيب محفوظ دون قراءة أعماله.. إن اهمية الكتاب.. لا تكمن في الاشارات الموحدة في فضائنا الثقافي عامة – والأدبي على وجه الخصوص – ولكن سيذهب من ذلك، ليس فقط كباحث بل كممارس للحقل التعليمي والانتاج الأدبي والثقافي عامة، وهذا ما شكل في نظرنا أهمية الكتاب – من حيث الجرأة التي يتلمسها قارئه من الصفحة الأولى إلى خاتمة الكتاب.