الخبري والمجلسي في عرس الزين

1. تقديم  

2. الخبر والرواية   

3. توسيع الخبر     

 4. القسم والتنبؤ  

 5 . تركيب

 

 

1. تقديم :

1. 1 . تأصيل أم تجريب؟

تشيع حاليا في النقد الروائي العربي مصطلحات مثل : التراث والحداثة ، والتأصيل والتغريب ،،، غير أن توظيف هذه المصطلحات في علاقته بالنص الروائي ، لايستند في الأغلب إلى خصوصية ما تقدمه الرواية العربية ، ولكن إلى مشاكل حيوية يخوض فيها الفكر العربي الحديث . لذلك تتم معالجتها من منظور تقييمي وموقفي . ولما كانت لنا نظرة مختلفة إلى مثل هذه القضايا ، إيمانا منا بأن اتخاذ المواقف وأحكام القيمة هما معا من محصلات رؤيات مسبقة عموما ، وليسا مقدمات للبحث والتحليل ، ارتأينا تجاوز هذه التصنيفات الثنائية لما فيها من اختزال وتعميم .

    إننا نذهب في مسار آخر ، ونعتبر تجربة التأصيل يمكن أن تكون حداثة ، كما يمكن لمغامرة روائية تجريبية أن تصب في مجرى التأصيل الروائي ،،، وهكذا . فالتجربة الروائية المتطورة والمبدعة تكتسب خصوصيتها من مدى قدرتها على تحقيق مستوى من ” الإبداعية ” يؤهلها للتفاعل مع الواقع والعصر ، سواء تحقق ذلك من خلال استلهام التراث ، أو تجريب تقنيات جديدة . ولا مشاحة في أن المادة الحكائية أوالتقنية التجريبية ليست هي التي تحقق للرواية وحدها طابعها “الروائي ” أو” السردي” في بعديه التأصيلي أو التجريبي . إن لصناعة الكاتب وقدرته الفنية على الإبلاغ والإمتاع ، دورهما الأساسي في إضفاء الطابع الفني والجمالي على العمل الروائي أو الأدبي .

    انطلاقا من هذه الرؤية ، نرمي إلى تجاوز التصنيفات الجاهزة ، ونعانق جمالية الرواية لنكشف عن مكامنها ومميزاتها ، وما يجعل منه جديرة بأن تكون رواية فعلا ، تسهم في إثراء المجال الأدبي العربي ، وتنفتح على قضايا الإنسان والمجتمع العربيين  بناء على ما تزخر به من مقومات جمالية وتعبيرية . وفي هذا المضمار أبادر إلى القول بأن رواية ” عرس الزين ” (1) للطيب صالح تتوفر على جانب أساسي من هذه المقومات وعلينا أن نضطلع بالبحث والكشف عنها من خلال الاشتغال ببعض عناصرها الدالة على ذلك .

1 . 2 . واقع أم تراث ؟ 

    على غرار التصنيفات الثنائية ، ومن ذيولها يسود الاعتقاد بأن الرواية حين تعانق التراث تكون بذلك تساهم في التأصيل لأنها تبتعد عن الحاضر ، وتنغمس في الماضي أو التاريخ . ويظهر ذلك بجلاء من خلال استعمال اللغات العتيقة وأساليب الحكي التقليدي أو  بواسطة توظيف المادة التاريخية أو تقنيات مستمدة من أجناس الكلام العربي القديم . وكل الروايات المعالجة في نطاق ” التأصيل ” والتراث تتوفر على بعض هذه السمات التي  تظهر بصورة أو بأخرى . وتعتبر الرواية تجريبية أو ” تغريبية ” حين  توظف عوالم تتصل بالعصر الحاضر ( هنا ـ الآن ) وبلغات جديدة ، وتقنيات حديثة .

    إننا بحسب هذا التصور ، لانميز بين التراث كواقع ، والتراث كمفهوم ، والواقع باعتباره مفهوما وتجربة في آن واحد . وعدم التمييز هذا يجعلنا نضع حدا زمانيا فاصلا  يغدو بمقتضاه ماهو “تراث ” منتهيا ، ومتصلا بالماضي ، وما هو واقع ما يزال قيد الوقوع . ولا ننظر في الزمان بصفته امتدادا يتداخل فيه الماضي السحيق بالحاضر والمستقبل . ومرد هيمنة هذا التصور يؤوب في تقديري إلى ارتهاننا إلى رؤية خاصة تتصل بالرواية من حيث نشأتها في تاريخنا الحديث .

    لكننا عندما نتأمل النصوص الروائية ، وهنا نحن أمام “عرس الزين” ، نجد أنفسنا أمام رواية تحطم هذا الاعتقاد الزماني : فهي تقدم لنا ” الواقع ” المعيش من خلال قرية سودانية ، والآن ( العصر الحديث ) باعتبار صلاتهما بما هو ” تراثي ” وعلى أصعدة شتى ، سنتوقف عندها ، بحيث تدفعنا إلى التساؤل في نهاية التحليل : ما هي حدود الواقع ؟ وما هي حدود التراث ؟ وما هي حدود ” التأصيل ” الروائي ؟ وماهي حدود التجريب على صعيد الكتابة ؟

1 . 3 . الرواية والاختلاف :

    الرواية نوع سردي يقوم على الاختلاف مع الأنواع السردية العتيقة ، وله قدرة على استيعاب مختلف الأجناس والأنواع وتحويلها . وهنا مكمن إنتاجيتها كي لا أقول “حداثتها”. إنها منفتحة على الزمان وعلى الإبداع . هذا الانفتاح هو مصدر فنيتها وإبداعيتها ، سواء تحقق ذلك من خلال معالجتها الحدث في التاريخ السحيق أو في الواقع المعيش ، أو المستقبل الممكن أو المتخيل . لذلك عندما نعتمد البعد الفني أساسا للتحليل ، نكون نسعى إلى تجاوز التصنيفات المسبقة التي تتحدث عن ” التأصيل ” أو “التحديث ” بناء على علاقة القصة بالخطاب في الرواية فقط ، دون اعتبار علاقة الخطاب بالقصة . وتبين لنا “عرس الزين” باعتبارها رواية كيف يتحقق الاختلاف من خلال استيعابها أنواعا قديمة ، وتفاعلها معها عبر تحويلها وهي تجري أمامنا في الواقع .

2 . الخبر والرواية  :

2 . 1 .  الخبر والأثر :

    يستيقظ مجتمع الرواية على خبر . الخبر بسيط بالنسبة إلينا نحن القراء ، لأننا خارج ” مجتمع ” الرواية . لكننا بالتدريج ، أي كلما انخرطنا في عملية القراءة ، ندخل هذا المجتمع ، ونحقق نوعا من التماهي معه ، فتبدو للخبر طبيعة خاصة بالنسبة إلينا نحن كذلك .

    مفاد هذا الخبر : ” الزين يتزوج ” . وتأتي الرواية بكاملها لتفسير هذا الخبر وتحليله ووضعه في سياقه . وبكل ذلك يتأتى لنا نحن القراء دخول عالم الرواية ، وفهم طبيعة هذا الخبر و” سره ” . كما أن العنوان يجسد لنا  الخبر ذاته : ” عرس الزين ” . إن مادة الرواية الحكائية بهذا التحديد تتمحور حول فعل “الزواج “، وفاعل ” العريس / الزين ” . ويمكننا تبعا لذلك أن نختزل الرواية بكاملها إلى مبتدأ وخبر على النحو التالي : ” الزين يتزوج ” .

    خبر عادي ، كما نلاحظ . إنه طبيعي وعادي ، وواقعي . لكن نسبة الزواج إلى ” الزين ” يجعلنا نتساءل عن أسباب كون هذا الزواج يكتسب بعدا خبريا . ويتحول من فعل عادي وطبيعي إلى فعل “عجيب “. وطابع العجب الذي اتسم به الخبر هو الذي أضفى عليه “الخبرية ” ، وجعله قابلا لـ” التداول ” والتلقي . وهو في تداوله وتلقيه أحدث أثرا في متداوليه ومتلقيه على السواء ، داخل مجتمع عالم الرواية .

    الخبر إذن نوع سردي بسيط يتمحور حول ” فعل ” مركزي ، ويقبل التداول لأثر يحدثه في المتلقي .

2 . 2 . الخبر :

     نفتح الرواية على خبر يتحقق من خلال الملفوظات الثلاثة التالية :

1 . ” سمعت الخبر ؟ الزين مو داير يعرَس ” . ( ص . 5 ) قالتها حليمة بائعة اللبن لآمنة .

2 . ” الزين ماش يعقدو له بعد باكر ” .( ص .6 )  يقولها التلميذ لناظر المدرسة .

3. ” … اقعد انحكيلك حكاية عرس الزين ” ( ص. 6 ) . يقولها التاجر علي لعبد الصمد .

    هذه الملفوظات الثلاثة تأتي من ثلاثة أصوات مختلفة ( امرأة ـ تلميذ ـ رجل ) ، وفي ثلاثة أزمنة متباينة ( قبيل شروق الشمس ـ الصباح ـ الضحى ) ، وفي ثلاثة سياقات تختلف فيها العلاقة وتتوتر بين راوي الخبر ومتلقيه :

ا. حليمة بائعة اللبن تريد أن تغش آمنة .

ب. التلميذ  الطريفي  يأتي متأخرا عن حصة الدرس .

ج. علي لايريد أداء ما عليه من دين ، ويماطل عبد الصمد .

    إن كل واحد من هؤلاء الرواة الثلاثة ، يوظف ” الخبر ” للتأثير على متلقيه ، والتدليس عليه لتحقيق غاية خاصة ، وهو متيقن من حصولها لخصوصية الخبر ، وطبيعته الخاصة. وفعلا ما أن سمع المتلقون الثلاثة الخبر حتى ظهر الأثر :

1. ” وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة ” ص . 5.

2. ” وسقط حنك الناظر من الدهشة ” ص . 6 .

3 . ” وجلس عبد الصمد ووضع يديه على رأسه ، وظل صامتا ” ص .7 .

    نعاين بجلاء من خلال التعابير الموظفة لرصد ردود أفعال المتلقين أمام خبر ” غير عادي ” في حياة القرية : فالوعاء يكاد يسقط ،  والحنك يسقط ، ويصاب عبد الصمد بالذهول ، فيظل صامتا . يولد الخبر العجيب الأثر العجيب داخل عالم الرواية . ويدفعنا هذا الأثر ، وذاك الخبر ، نحن القراء إلى التساؤل عن مكمن ” العجب ” وموئله في هذا الخبر ، وعن طابعه الخبري الذي يتميز به ، والبحث عن الجواب عنه من خلال عملية القراءة .

    تأتي رواية عرس الزين بكاملها لتكشف لنا عن هذه الخبرية ، وهي تحقق من خلالها سرديتها وروائيتها . ويمكننا معاينة ذلك من خلال المشاهد الثلاثة التي تم عبرها ترهين الخبر . ويفرض علينا هذا الوقوف على طبيعتها ، وخصوصيتها في عملية بناء النص على النحو التالي :

1. من حيث المفارقة الزمنية  : نجد الرواية تنفتح على ” استباق “ ،  وذلك على اعتبار أن حدث العرس هو ما تختتم به الرواية .

2 . من حيث التواتر : نحن أمام التكراري “ ، لأن الحدث الواحد قدم إلينا ثلاث مرات ، ومن خلال ثلاثة أصوات مختلفة .

3 .  من حيث المدة : يقدم إلينا ” الخبر ” من خلال  المشهد “ الذي يتوازى فيه زمن القصة وزمن الخطاب .

    إن اجتماع الاستباق والتكراري والمشهد يوحي إلينا نحن القراء ، أننا أمام خبر غير عادي . وذلك بناء على أن الاستباق يبين لنا قيمة  الحدث أو  الخبر الذي دشن به السرد ، لأن كل ما سيأتي يبنى عليه . وأن التكراري يكشف لنا عن الطبيعة الخاصة للحدث ، ولذلك استرعى الاهتمام أكثر ، وكان له أكثر من راو ، وطريقة في الأداء . وأخيرا يبرز لنا المشهد أن مختلف أطراف مجتمع الرواية ( الشخصيات من مختلف الفئات ، وسواء كانت تمارس السرد أو تتلقاه تنفعل بالحدث ) تمحضه القيمة نفسها .

    كل هذه الاعتبارات تجعلنا نرى ” الخبر ”  نواة السرد ، ومولِّده في آن واحد . لذلك فإننا على صعيد بناء الرواية ما أن نتجاوز هذه المشاهد الثلاثة ( التي نعتبرها مجتمعة بمثابة مطلع الرواية ) حتى تشرع الوحدات السردية اللاحقة في تحليل الخبر وإضاءته عبر إعادة ترتيب الزمن ، ويظهر لنا ذلك بجلاء في قول الراوي : ” ولما انتصف النهار كان الخبر على فم كل واحد ” . ( ص . 11 )

    يولد الخبر “العجيب ” الأثر ” العجيب ” في مجتمع الرواية ، ويدفعنا هذا نحن القراء إلى التساؤل عن سر “العجب” في هذا الخبر ؟ وذلك ما تضطلع الرواية بالجواب عنه ، ومن خلاله تعمل على إدماج القارئ في النص الروائي .

3 . توسيع الخبر :

    بما أن الخبر جاء على شكل استباق ، فإن الدخو ل إلى عالم النص ، يتحقق أولا بوضع شخصية ” الزين ” وقت انتشار الخبر في القرية بكاملها ( منتصف النهار ) قرب البئر يملأ أوعية النساء ، وهو يضحك معهن بطريقته الخاصة ، والأطفال يتصارخون من حواليه “الزين عرس ،،،” وهو يطاردهم ، ويرميهم بالحجارة ، والكل يضحك ويصرخ ، لكن ضحكة الزين كانت تعلو فوق ضحك الجميع ، تلك ” الضحكة التي أصبحت جزءا من البلد منذ أن ولد الزين ” ( ص . 11 ) .

    في منتصف النهار ، يصل الخبر الجميع ، ويواجه به الزين ، وكان ” الضحك ” سائدا مجتمع القرية . وبعد هذا المشهد ينتقل بنا الراوي ، على إثر إشارته إلى ” الضحكة” المتميزة للزين إلى ميلاده العجيب  ، وإلى الوقوف على صفاته الخارجية ، وموقعه داخل البلد ، ومجموعة من الأفعال التي وقعت له إلى حين إعلان ” زواجه ” التي كان مثار حديث الشخصيات وتعليقاتها وتأويلاتها  .

    يتم توسيع الخبر باتباع استراتيجيتين اثنتين ، تركز أولاهما على موضوع ” العجب ” المتصل بالشخصية المحور ، وثانيتهما على أسباب حدوث الأثر في شخصيات عالم القرية ، وهو ما سنتوقف عنده من خلال النقطتين معا .

3 . 1 . الشخصية العجيبة :

    يتصل الخبر الذي اعتبرناه موئل السرد ب” الزين ” الشخصية المحورية في الرواية . إنه مختلف عن باقي الشخصيات ، ولو كان الزواج لشخصية أخرى في البلد ، لما كان له كل الأثر الذي خلفه . ينبري الراوي لتجسيد خصوصية هذه الشخصية انطلاقا من ميلادها إذ هي على غرار الشخصيات العجيبة ذات ميلاد عجيب .

    أول مظهر للعجب الذي يتميز به عن غيره من الأطفال ساعة الميلاد هو الضحك:”يولد الأطفال فيستقبلون الحياة بالصريخ ،،، ولكن يروى أن الزين ، والعهدة على أمه والنساء اللائي حضرن ولادتها ، أول مامس الأرض ، انفجر ضاحكا . وظل هكذا طول حياته ،،، “. (ص . 15 ) .

    ثاني مظهر للعجب أنه ” كبر وليس في فمه غير سنين ، واحدة في فكه الأعلى ، والأخرى في فكه الأسفل ” ( ص .15 ) . ويتوسع الراوي في تقديم أوصافه الخارجية مشفوعة بتشبيهات تتصل بعالم الحيوان : حواجب ولا أجفان ، عنق طويل كالزرافة ، ذراعان طويلتان كذراعي القرد ، ساقان رقيقتان طويلتان كساقي الكركي ، الضحك الغريب الذي يشبه نهيق الحمار ،،،

    هذان المظهران المتصلان بالعجب يجعلانه فريدا ومتميزا عن الجميع ، بحيث كان “موضوعا ” للحكي منذ ولادته : الضحك الذي واجه به العالم كما ترويه أمه والنساء اللواتي حضرن فترة ولادته ، وفقدانه الأسنان البيضاء هو كذلك مما ترويه أمه عندما كان في السادسة من عمره ، ومرورها وهو صحبتها بخربة يشاع أنها مسكونة قبيل المغرب ،  وكيف تسمر الزين فجأة ” مكانه وأخذ يرتجف كمن به حمى ، ثم صرخ ، وبعدها لزم الفراش ، ولما قام من مرضه كانت أسنانه جميعا قد سقطت ،،، ” ( ص. 15 ) .

    إننا أمام شخصية تنهض على تنافر الأضداد : قبح ظاهر وضحك نادر . وكل ما يتصل بسلوكه وأفعاله هو وليد شخصيته المتميزة المائلة إلى الهبل : شخصية غير عادية ، تفنن الراوي في جعلها قطب رحى البلد ، فإذا هي عفوية ، وبسيطة وساذجة ، يتخذها البعض موضوعا للهزء ، والتندر ، ويراها البعض الآخر وليا من أولياء الله .

     شخصية بهذه المواصفات لايمكن أن تتزوج أبدا ، ولاسيما عندما نعرف أن الفتاة التي يتزوج من عائلة ذات موقع متميز في البلدة . إنها ” نعمة ” التي يتهافت عليها الجميع  . وعندما يشاع أنها قبلت الزواج منه ، فلا يمكن لذلك إلا أن يكون حدثا استثنائيا في حياة البلدة ، بل إن العام الذي يتزوج فيه ” الزين ” سيصبح في تاريخ القرية معروفا ب ” عام العجائب “.ألم يصرخ ناظر المدرسة ، وهو متوجه إلى دكان الشيخ علي وعنده عبد الصمد قائلا قبل أن يصل إليهما : “شيخ علي ، حاج عبد الصمد ، السنة دي سنة العجايب دا كلام إيه دا ؟ “. ( ص.88) .

    إن بناء شخصية ” الزين ” من خلال تجسيد عناصرها الفيزيولوجية والذهنية تجعلنا فعلا أمام شخصية غير عادية ، ولا طبيعية بمقارنتها مع باقي الشخصيات . ويبين لنا هذا الملمح لماذا كانت للخبر كل الآثار التي لمسناها في مطلع الرواية من خلال الاستباق .

3 . 2 . أثر الخبر : 

    تتطور أحداث الرواية متخذة من شخصية ” الزين ” محورا مركزيا . وفي هذا التطور يتوسع الخبر عبر استدعاء كل واحد من المشاهد الثلاثة . ومن خلال هذا التوسيع يتم تفسير دواعي حصول الأثر في الشخصيات من جهة ، وإبراز العلاقات التي تربط بين مختلف الشخصيات في الرواية من جهة ثانية ، وأخيرا يتم الكشف عن خصوصياتها وطبائعها .

3 . 2 . 1 . آمنة ، وبائعة اللبن : ينتقل بنا الراوي في الصفحة 41 إلى المشهد الأول بين حليمة بائعة اللبن وآمنة ليكشف لنا سر حصول الأثر في آمنة وأسبابه . قبل شهرين من شيوع الخبر ، كانت بين آمنة وسعدية أم نعمة قطيعة بسبب موت أم آمنة ، ولم تأت سعدية لتعزيتها ، أنها كانت مريضة في المستشفى . وعندما خرجت منه لم تذهب آمنة للاستفسار عن صحتها ، لأنها لم تعزها . لكن بعد مدة ذهبت آمنة إليها لتطلب يد اينتها “نعمة ” لابنها أحمد . وكان الجواب هو الرفض ” والآن يزوجونها للزين . هذا الرجل الهبيل الغشيم . يزوجونها للزين دون سائر الناس … ” (ص .43 )  .

    إن الأثر الذي أحدثه الخبر في آمنة جاء مشفوعا بالغضب بسبب كون أهل العروس رفضوا تزويجها لابنها أحمد ، لذلك ” شعرت آمنة كأن في الأمر إساءة موجهة إليها شخصيا ، عن عمد ” ( ص . 43) . هذا الغضب أحست به بائعة اللبن ، فحسبت آمنة قد أدركت أنها غشتها ، فزادتها قليلا لتأخذ بخاطرها .

3 . 2 . 2 . نجد الأمر نفسه مع ما رأيناه في المشهدين الثاني والثالث . فمن الصفحة 87 إلى الصفحة 95 يضعنا الراوي أمام الناظر والشيخ علي وعبد الصمد .  حين سمع الناظر بخبر زواج الزين من التلميذ الطريفي نسي أن التلميذ جاء متأخرا ، وعليه أن  يعاقبه . ولم يمكث إلا برهة في القسم ، وطلب من التلاميذ مراجعة درس الجغرافيا ، وخرج من القسم مسرعا ، وتوجه نحو دكان الشيخ علي . بواسطة الخبر نجا لطريفي من العقاب ، ونجا التلاميذ من درس الجغرافيا . تماما كما نجح الشيخ علي في عدم ماعليه من دين لعبد الصمد الذي جاءه ليخلص منه دينه بالخير أو بالشر .

    لكن الحديث عن ” زواج ” الزين أنسى عبد الصمد تخليص ماله من الشيخ علي . ونتبين من العرض غير المباشر الذي جرى بين الثلاثة حول الزواج أن الناظر كان قد فكر ذات مرة في خطبة ” نعمة ” من أبيها ، لكنه رده لفارق السن بينهما ، ووعده ألا يذكر ما جرى بينهما . لكن الناظر ” لما سمع  بأنها ستزف للزين دون سائر الناس أحس الخنجر ينغرس أكثر في قلبه ” . ( ص. 92 ) .

    لايختلف موقف الناظر عن موقف آمنة ، فكلاهما يرى أن زواج الزين من نعمة هو موقف شخصي من كل واحد منهما . لكن المسألة لاتتعلق فقط بالرفض ، وتزويج نعمة ، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه على كل واحد منهما ، هو لماذا الزين بالضبط ؟ ونلاحظ ذلك بجلاء في ” تعجب ” كل من آمنة والناظر ، وتساؤلهما ” لماذا الزين دون سائر الناس ؟ ” . هذا التساؤل يؤكد لنا الطابع الخاص الذي تتميز به هذه الشخصية في عالم الرواية .

    إن توسيع الخبر لايظهر لنا فقط من خلال ” عجائبية ” الشخصية ، أو تفسير الأسباب الكامنة وراء الأثر الذي أحدثه الخبر في مجتمع الرواية ، ولكنه علاوة على ذلك ، يكشف لنا عن عوالم شخصيات الرواية ، وما تعرفه من اصطفافات ( معسكر العقلاء / فريق الشبان/ فريق محجوب ،،، )  وتقاطبات ( التحولات الطارئة على مجتمع القرية من خلال ما يجري فيها ) ، ومجمل العلاقات العامة والخاصة التي تربط أو تفصل بينها . وهذا الكشف له صلة وثيقة ببناء ” شخصية الزين ” وموقعها داخل مجتمع الرواية لأن ” الزين كان فريقا بذاته ” ( ص . 100 ) .

4 . القسم / التنبؤ :

    إذا كان توسيع الخبر قد تم من خلال استراتيجيتين تتصلان به ، وتفسران طبيعة الشخصية المحورية ، وعلاقات الشخصيات بعضها ببعض ، وموقفها من الزين ، فإننا نجد أنفسنا أمام ما يسمح لنا  بالحديث عن تشعب “ الخبر  من خلال توظيف أسلوبين لايختلفان معا عن الخبر في حد ذاته باعتباره نوعا سرديا ولكنهما يساهمان معه في تشكيل عالم الرواية وتأثيثه وبنائه . هذان الأسلوبان هما :

4 . 1 . القسم :

    توظف الرواية إلى جانب الخبر القسم متصلا بالزواج ، مباشرة بعد وصف الزين . ذلك أن الزين كان في مجلس يحكي للحاضرين عن إحدى مغامراته في الحفلات التي يحضرها بقصد الحصول على الطعام ، ولكي يؤكد لهم حكيه ، قال :” علي بالطلاق آزول الريحة سكرتني ” . ( ص . 19 ) إن القسم بالطلاق جزء أساسي من بنية الكلام ، وقد يستعمله المتكلم لتأكيد كلامه ، لكن عبد الحفيظ اعترض على حلف الزين بالطلاق  ، مبينا أن الزين لن يتزوج أبدا من خلال قوله : ” وضحك عبد الحفيظ : ” وين المره البطلقها مع الرجال ؟ ” لم يعبأ الزين بهذا ، ولكنه استمر يحكي في القصة ،،، ”  ( ص . 19 ) .

    إن عبد الحفيظ حين يقاطع الزين بعد سماعه قسمه بالطلاق  يؤكد لنا نحن القراء  الصورة التي  بدأت تتشكل لدينا بصدد الخبر ، ونحن نتساءل عن إمكانية تحققه أو أسباب الأثر التي خلفها ، بعد أن عاينا  ما أحدثه في الشخصيات الثلاث  في مطلع الرواية . إن موقف عبد الحفيظ يعكس لنا بدوره خصوصية الزين وإجماع الناس بصدده ، وأنه لايمكن أن يتزوج أبدا .

    لكن تطور الأحداث ، وحصول الزواج في نهاية الرواية ، يضعنا أمام تحويل الرؤية الأولى التي تشكلت لدينا عن الزين . وفي حفل العرس ، كان الزين يقف بنفسه ليحث الناس على الأكل “،،،  يبتسم ويضحك ، يدخل بين الناس ، يهز بالسوط ، ويقفز في الهواء،،، ويحث هذا على الأكل ، ويحلف على هذا الطلاق أن يشرب ” . ( ص. 121) . يذكرنا هذا القسم بما رأيناه في بداية الرواية ، لكن القسم الآن صار له معنى كما يبدو لنا ذلك من خلال تعليق محجوب على كلام الزين ” وقال له محجوب  : ” دحين أصبحت بني آدم . حلفتك بالطلاق يادوب أصبح ليها معنى ” . ( ص . 121 ) . واضح الفرق بين الصيغة الأخيرة ، والأولى . فالآن صار الزين ” إنسانا ” بتحقق فعل الزواج وأن حلفه بالطلاق صار له معنى ، أما قبل ذلك ، فلم يكن سوى لغو .

4 . 2 . التنبؤ :

     إذا كان ” القسم ” بالطلاق  هو ملفوظ الشخصية الذي يثير السخرية والضحك في بداية النص ، لأن الزين لايمكن أن يتزوج ، كما كان ذلك في وعي  الشخصيات  ، فإن  “التنبؤ ” ملفوظ شخصية الحنين الشيخ الناسك في القرية . وهذاا الملفوظ له طابع سحري ، ويأتي من شخصية ” عجائبية ” ، لأنه كما يرى محجوب  بصدد أقوال الحنين “نبوءات هؤلاء النساك لاتذهب هدرا ” ( ص . 67 ) .

    بعد الشجار الذي وقع بين الزين وسيف الدين بسبب أخت سيف الدين ليلة عرسها ،  وكاد الزين أن يقتل سيف الدين ، جاء الحنين ليوقف الزين وهو ممسك برقبة سيف الدين ، وقال له ” باكر تعرس أحسن بت في البلد دي . وأحس محجوب بخفقة خفية في قلبه . كان فيه رهبة دفينة ما لأهل الدين ،،، ” ( ص . 67 ) .

    تتضافر هذه النبوءة مع القسم لتلعب دورا مهما في تشعب خبر الزين ، وتفسير العوامل المتعددة  التي ساهمت في تحققه ، وتقديم مختلف العناصر التي تجعله ممكنا ، وفي النهاية واقعا . وفعلا نلاحظ أنه إذا كانت هذه النبوءة قد جاءت في منتصف الرواية ، فإننا نلاحظ في المجلس الذي ضم الناظر والشيخ علي وعبد الصمد ، وهو يتحدثون عن الزين والزواج ، كيف يتدخل عبد الصمد ليقول : ” كلام الحنين ما وقع في البحر . قال له باكر تعرس أحسن بت في البلد” ( ص .89 ) . ويعلق الناظر : ” أي نعم والله . أحسن بت في البلد إطلاقا . أي جمال ! أي أدب ! أي حشمة ! … ” (ص . 89 ) .

    ويتكرر المشهد بحضور الزين في مجلس يضم محجوبا وسعيد والطاهر الرواسي ،،، وهو يتحدثون عن عرس الزين متعجبين ، فيتدخل الزين ” وقال في سرور : الحنين قال لي قدامكم كلكم : باكر تعرس أحسن بت في البلد ” .( ص . 112 ) .

    إن التعبير عن كلام الحنين من خلال  التكراري له أكثر من دلالة في توجيه الأحداث ، والهيمنة عليها . إنه يوجهها لأن النبوءة ليست فقط قولا عاديا من شخصية عادية ، ولكنه يساهم في تشعب الحدث بجعله ” مقبولا ” من قبل الشخصيات التي لايمكنها أن تعارضه أن تتدخل ضده . وسنلاحظ ذلك بجلاء في التأويلات التي رافقت الحدث ، وما جره من أقاويل وتعليقات .

4 . 3 . تأويلات وأقاويل :

    لقد  وظفت  لتقديم المادة الحكائية  في رواية عرس الزين أنواع ثلاثة هي :

4 . 3 . 1 . الخبر : الذي قد  جاء عن طريق الاستباق ، وتم توسيعه من خلال  الذهاب إلى “الحكي الأول ” المتصل بميلاد الشخصية العجيبة ، وبدأت الأحداث تتطور ، وتتشعب من خلال توظيف :

4 .3 .2 . القسم : وهو نوع كلامي وظفه الروائي ليضعنا أمام احتمالين : إمكان نفاذ وتحقق الزواج  أو عدمه  .

4 .3 . 3 . التنبؤ : وهو كذلك نوع كلامي لا يمكن أن يصدر إلا عن شخصية لها خصوصيتها.

    وإذا كانت الرواية قد افتتحت باستباق ( الخبر ) ، فإن  النوعين الآخرين ( القسم / التنبؤ ) تم توظيفهما في منتصف الرواية ، ليتم تحققهما في النهاية . وبذلك تتضافر هذه الأنواع الثلاثة ، وتتكامل لتشكيل عالم الرواية ، وتضمن تلاحم بنيتها الحكائية وانسجامها.

    إننا كما رأينا ” التكراري ” يبرز لنا بجلاء من خلال الأنواع التي ألمحنا إليها وهي تقدم لنا ” الحدث ” المحوري ، أو من خلال توسيعه أو تشعبه ، نجده باديا كذلك في نهاية الرواية ، وقد وصلنا إلى الحدث نفسه ( الزواج ، وقد أخذ موقعه ضمن الترتيب  إذ به تكتمل دورة الرواية ) ، لكن هذه المرة ليس من خلال الإعلان عن الخبر ، ولكن من خلال تأويلاته ، وما رافقه من أقاويل في مجتمع الرواية ، وبالأخص من خلال الأصوات التي من خلالها وصل الخبر :

    ” اختلفت الأقاويل . قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة ، وكأنها تغيظها ،،، إن نعمة رأت الحنين في منامها ، فقال لها : عرسي الزين . اللي تعرس الزين ما بتندم ،،،

وزعم الطريفي لزملائه أن نعمة وجدت الزين في يحشد من النساء ،،، فحدجتهن بنظرة صارمة وقالت لهن : باكر كلكن تأكلن وتشربن في عرسه ،،،

وروى عبد الصمد للناس في السوق أن الزين هو الذي طلب الزواج من نعمة ،،، إلا أن  المرجح أن الذي حدث غير هذا ، وأن نعمة ، بما فيها من عناد ، وربما بوازع الشفقة على الزين ، أو تحت تأثير القيام بتضحية ، قررت أن تتزوج الزين ،،،( ص . 116 ـ117)

    هذه التأويلات المتعددة التي تقدمها لنا الرواية  تأتي على شكل أقاويل لايمكن إلا أن نشك في صحتها أو ملاءمتها لما تقدمه لنا لرواية من إمكانات ومعطيات . فحليمة بائعة اللبن لاتسوق ( تروي ) الخبر إلا بقصد مركزي : إغاظة آمنة . ولذلك فإنها تذهب إلى  اختلاق سبب وجيه يقضي بالزواج بين الزين ونعمة بإعطائه بعدا عجائبيا ( حلم نعمة بالحنين ) . وعلينا ألا ننسى في هذا السياق ” التنبؤ ” الذي جاء على لسان الحنين . إن حليمة تستثمره بذكاء مركزة على بعده القابل للتحقيق ، فهو الكلام الذي لايرد .

    أما الطريفي ( التلميذ ) فيجعل الزواج جاء بإرادة ” نعمة ” لما رأت الزين وسط النساء وهن يضحكن منه . إنه التحدي الذي تمارسه نعمة حيال قريناتها . أما عبد الصمد فيجعل أمر طلب الزواج جاء بناء على رغبة الزين ، فهو الذي أقدم  على ذلك بتوجيه من “كلام ” الحنين الذي يعتقد فيه ، وسبق أن بينا استشهاد الزين بكلام الحنين .

    تتعدد هذه التأويلات ( الأقاويل ) وتختلف باختلاف أصوات الرواية . تركز حليمة على نعمة من خلال حلمها بالحنين ، والطريفي  كذلك ينطلق من نعمة تبعا للمشهد الذي عاينته هذه الأخيرة ، بينما يركز عبد الصمد على الزين . هذه الاختلافات في تأويل “الخبر” ترتبط  بجلاء باختلاف طريقة تقديم الخبر من قبل الأصوات التي وقفنا عليها .

    لكن الراوي له وجهة نظر خاصة بصدد هذه التأويلات ، فهو يستبعدها جميعا ، ويقدم لنا تأويلا آخر يراه مناسبا . يبدو لنا ذلك بجلاء في قوله ” من المرجح أن الذي حدث غير هذا ” . إن الصيغة بينة في الكشف عن التأويلات المقدمة ومدى مجانبتها للصواب ، لذلك يقترح علينا تأويلا مغايرا ” إن نعمة بما فيها من عناد ، وربما بوازع الشفقة على الزين ، أو تحت تأثير القيام بتضحية ، قررت أن تتزوج الزين ” ( ص . 117) . يركز الراوي على البعد النفسي ل” نعمة ” وما تتميز به من عناد ، ويفسر ذلك بتشديده على ” ربما ” من خلال الإيحاء إلى شفقة نعمة على الزين ، ورغبتها في التضحية .

    يلتقي التأويل الذي يقدمه لنا الرواي مع ما نجده عند التلميذ الطريفي من خلال تركيزه على ” رغبة ” نعمة في الزواج من الزين . لكن الراوي يعطيها أبعادا أكثر وضوحا ، مادام التلميذ يبرزها لنا من  خلال ” المشهد ” الذي جمع  النساء بالزين ، وهن يضحكن منه . إنه موقف لايمكنه إلا أن يثير الشفقة ، ولاسيما إذا عرفنا أن نعمة بنت عم الزين .

    هذا الترجيح الذي يقدمه الراوي نجد ما يعضده و يفسره في بداية الرواية عندما انبرى لتقديم  صورة عن شخصية ” نعمة ” من خلال تركيزه على عنادها ، ورغبتها في التميز . فهي في طفولتها أرغمت أباها على دخولها الكتاب لتتعلم القرآن ، وهي عندما كانت  تقرأ  القرآن الكريم كانت تشعر بنشوة عظيمة ، ولاسيما ” حين  تصل إلى الآية : ” وأتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا ” وتتخيل رحمة امرأة رائعة الحسن ، متفانية في خدمة زوجها ، وتتمنى لو أن أهلها سموها رحمة . كانت تحلم بتضحية عظيمة لاتدري نوعها . تضحية ضخمة تؤديها في يوم من الأيام ” ( ص .52 ) .

    كانت نعمة تتمنى لو كانت ” رحمة ” زوجة أيوب ، ولو سماها أهلها رحمة ، لأنها “منذورة ” لتقديم تضحية عظيمة . لذلك فإن رغبتها التي تكونت عندها منذ طفولتها ، صارت بمثابة ” التنبؤ ” أو ” الحلم ” الذي ظل مسيطرا عليها منذ زمان . وهي حين كانت تضع صورة عن فارس أحلامها ، لم تكن تفكر كثيرا فيه ، وكأنها قد حسمت الأمر  مع نفسها منذ اكتشافها الزين . إن الزين في وضعه الاجتماعي لايختلف كثيرا عن ” أيوب ” فهو عرضة للهزء والسخرية من الغير ،  ومدعاة للرحمة والشفقة من نعمة . ولنا أن نتذكر هنا المشهد الذي يرويه التلميذ الطريفي عن نعمة ، وهي تخاطب النسوة اللواتي كن يضحكن من الزين .

    إن التأويلات أو الأقاويل لاتختلف من حيث الجوهر ، حتى وإن رجح الراوي واحدا منها على غيره . إن دلالتها واحدة  وتبرز في كون ” نعمة ” منذورة للزين ، سواء جاء ذلك بناء على رعبتها في التحدي ، أو الشفقة ، أو استجابة للحلم الذي رأت فيه الحنين .

5 . تركيب :

    ينجح  الطيب صالح في بناء رواية عرس الزين على ” الخبر ” . ويوظف لتوسيعه وتشعبه نوعين آخرين هما ” القسم ” و” التنبؤ ” ، وانطلاقا من استثمار عالم القرية في جزئياته وتفاصيله ، يقدم لنا تجربة روائية يتداخل فيها ” الواقعي ” ( واقع القرية السودانية ) مع ” التراثي ” ( من خلال العديد من العناصر الدالة عليه ) بحيث لانجد مسافة بينهما . إن التاريخ القديم بأشكاله ومثله وقيمه ما يزال ممتدا في الحاضر . يبرز ذلك بجلاء في كون استثمار البنيات الحكائية القديمة ( الخبر ) وأشكال تلقيه وتأويله، ومختلف  أنواع الحديث أو القول ، وخاصة  ” القسم ” ، وأٌقوال الزهاد ذات الطابع التنبؤي، جاءت لتصب جميعا في قالب   ” العجائبي ” الذي تزخر به الرواية ، وتكشف لنا عن العلاقة بين الواقع والتاريخ والتداخل الحاصل بينهما : فالحلم ، والخربات المسكونة ، ودعوات الحنين كلها لها دور كبير في طبع عالم الرواية ومجتمعها بالطوابع التي تؤكد ذلك التواشج الذي نلمسه في التاريخ العربي ، وإذا هو متصل بعالم القرية . وهناك عناصر أخرى لها أكثر من دلالة في النص الروائي ، وهي تعمل مجتمعة على تأكيد ما نرمي .

    إن تداخل الواقعي والتاريخي ، يجعلنا نستعيد ما قلناه في البداية عن العلاقة بين التـأصيل والتجريب  ويدفعنا إلى استخلاص أن الروائي وهو يشتغل بما يزخر به الواقع من قيم متناقضة وممتدة من التاريخ ، يمكن أن يسهم في تـأصيل الرواية العربية دون أن تكون تجربته مستمدة من التراث السردي العربي . فالتداخل بين الواقع والتراث ممتد في الزمان ، وهناك العديد من العناصر التي نتعامل معها الآن بأنها من صميم التراث ما تزال تجلياتها بارزة في واقعنا . وحين يوظفها روائي من طراز الطيب صالح ، فإنه بذلك يدفعنا إلى معاينة الحدود القائمة بين الواقع والتاريخ ، بين الحداثة والتراث من منظور مخالف لما يشيع في الأدبيات الرائجة ، وينبهنا إلى ضرورة التساؤل بصددها .

    نجد الجواب الواضح عن الإشكال الذي نطرح الآن كامنا في ما يسمى ب ” الثقافة الشعبية “، إذ كلما نجح الروائي في الإنصات إلى نبض الواقع وبما يمور به كان التداخل واضحا بين التاريخي والواقعي ، وبينهما والأسطوري ، وبين مختلف الأشكال السردية التي وظفها العربي منذ القدم للتعبير عن هواجسه وأحلامه . وحين  يمسك الروائي بمختلف هذه المكونات ، تتداخل الرواية بغيرها من الأشكال ، فيقع استثمارها على النحو الذي يضعنا أما الفعل الإبداعي  الذي يظل ينهل بوعي أو بدون قصد من الثقافة الشعبية باعتبارها ذاكرة ، أو تجسيدا ثقافيا ما يزال ينبض بالحياة . والروائي الحقيقي هو الذي يلتفت إلى هذا الطابع الشعبي الذي ترثه الرواية بامتياز ، فإذا هي تنفتح على  كل التراث، وتتمثله ، وتستوعبه ، موظفة إياه في صور نابضة بالحياة فيتصل  الزمن الماضي بالحاضر ، بشكل يجعلنا نرى التداخل والتكامل بينهما .

    هذا التوظيف الخاص للواقع في امتداده التاريخي ، هو الذي أعطى لرواية ” عرس الزين ” طابعها الخاص ، الذي يتمثل في اتصالها بالواقع ، وبالحياة الشعبية في أعمق تجلياتها ، وصورها التي تصلها بالتاريخ وبالإنسان العربي في انتمائه الثقافي والحضاري ،

ولعل تحليلا شاملا وأوسع للرواية قمين بجعلنا نلتفت إلى هذه الطوابع المهمة والغنية ، والتي  بدأت الرواية العربية تتعامل معها بوعي ، وبصور عديدة تستدعي البحث والسؤال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 .  عرس الزين، الطيب صالح ، دار العودة ، بيروت ، الطبعة الثالثة ، 1970.

 

أضف تعليقاً

Your email address will not be published.