حديث الصباح / جريدة الصباح 18 يوليوز 2012
و”اللي بفمو ما يتلف”؟
سعيد يقطين
عندما تضع الجرائد المغربية جانبا، وقد امتلأتَ من بعضها بخطابات تتحدث عن ما فوق الحداثة؟ وتروم الخروج لمعاينة الناس في حياتهم اليومية، في الأسواق الشعبية وفي الحافلات،،، تجد تلك الخطابات لا علاقة لها بحياة الناس: فالواقع متعال على الخطاب، وكان الأحرى، رغم أنه ليس حسنا دائما، أن يكون العكس. إن الواقع العملي اليومي وشبه الدائم، في عاصمة المملكة مثلا، وليس في مدينة صغيرة، أو قرية نائية، حيث قبة البرلمان، والطرامواي الذي تفتخر به الرباط، والذي احتضنته قبل العاصمة الاقتصادية، وقبل احتمال أن تستوعبه أي مدينة أخرى غيرهما، يبين أن الشعب يعيش كما كان في بداية الاستقلال: أي لا يزال مجتمعا شفهيا، لا يتواصل، لمن يعرف ألفباء السيميائيات، إلا بواسطة اللسان. وأن تعامله بواسطة الكتابة والصورة والخطاطة، وهي ولا شك علامات “حداثية” لمن تستهويه كلمة “الحداثة”، لا يزال ينتظره زمن طويل للارتقاء إليها واقعيا وليس خطابيا كما نطالع باستمرار.
إن هيمنة الشفاهية والكلام المكتوب (وهو ليس الخطاب الكتابي)، لا يعني سوى أن الأمية الألفبائية منتشرة، من جهة، وإلى جانبها الأمية المعرفية، من جهة أخرى. ولا داعي للحديث عن الأمية الرقمية، فتلك ملحمة أخرى؟ هيمنة الأميات المختلفة يكشف بالملموس أن الحديث عن “الحداثة” ضرب من الخرافة لأن من الأبجديات ما قبل الأولية للحداثة قطعَ المجتمع نهائيا مع الأمية بمختلف صورها، وارتقاءَه إلى القدرة على التواصل بمختلف العلامات التي يزخر بها العصر.
سأتناول مظهرا واحدا للدلالة على هيمنة الـ”شفاهية” في المجتمع في علاقته بالفضاء الذي يعيش فيه. وكفى بذلك مثالا، نحفز من خلاله من يريد المساهمة في هذا الموضوع، برصد مظاهر أخرى، للتفكير الجماعي في تجاوزها. سبق أن كتبت في هذا الركن أننا نحن المغاربة لا نعرف بلدنا. بل إن أيّاً منا لا يعرف المدينة التي قضى فيها ردحا من الدهر. ويكفي لزائر (راجلا أو راكبا) أي مدينة أن يسأل أي مقيم في تلك المدينة عن شارع أو مكان معروف جدا، ليجد المسؤول لا يعرفه. وإن عرفه، يخطئ في نعت المكان. عدم معرفة المدينة، بالنسبة إلى المقيم فيها، لا علاقة له بالسياسة السياحية بشكل مباشر، ولكن له علاقة مباشرة بالمستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي وصل إليه المجتمع. إنها علاقة الإنسان بالفضاء: معرفة الفضاء جزء من السيطرة عليه. ومعنى ذلك التحرك فيه بمرونة وحيوية وفاعلية. وفي ذلك امتلاك للزمان وتحكم فيه. وبمقدار تحكم أفراد المجتمع في الفضاء والزمان نقيس درجة تطوره، وانتقاله من مرحلة، في التطور، إلى أخرى. في المرحلة الشفاهية يسيطر الفلاح والراعي على فضائهما، فيعيشان متناغمين مع عالمهما المفتوح. في المرحلة الكتابية وتطوراتها الحداثية أوجد الإنسان “علامات” لامتلاك الفضاء المعقد والسيطرة عليه. في المجتمع الشفاهي تتحدد علاقة الإنسان مع الفضاء من خلال الشعار : “اللي بفمو ما يتلف”، أي ستظل تسأل المارة عن المكان المقصود حتى تصل، ولا عبرة بالزمان الضائع؟ في المجتمعات المتطورة، والتي قطعت مع الشفاهية، لا يجيبك من تسأله عن مكان ما، لأن لسان حاله يقول: لست مسؤولا عن أميتك؟ فالعلامات التي ترشدك موجودة في كل مكان.
المغرب بلد بلا علامات. والعلامات الموجودة فيه قليلة جدا ولا تساعدك أبدا. أسماء الشوارع والأزقة، موجودة وكالمنعدمة. محطات الحافلات في العاصمة صارت جميلة، وعليك، سدى، أن تبحث عن علامة ترشدك إلى المبتغى. بعد استخدام حدسك الشفاهي البدوي ستجد أرقاما. عليك أن تعرف رقم الحافلة، لتعرف أين عليك أن تذهب؟ وإذا كنت تعرف الوجهة العامة، عليك أن تسأل عن الخاصة، وهل هذا الرقم أم غيره سيقربك من وجهتك؟ وعليك أن تظل تسأل حتى تصل إلى بيتك إذا اضطررت لركوب الحافلة. أليس هذا مجتمعا شفاهيا؟ في الدول التي قطعت مع الشفاهية تجد في كل محطة خارطة، تبين موقعك الذي أنت فيه، ورقم الحافلة والشوارع التي يمر منها والمحطات التي تقف فيها.وداخل الحافلة شريط ضوئي متحرك مكتوب ومرفق بصوت واضح، وبلا مشوشات، يخبرك عن المحطة التي وصلت إليها الحافلة، فلن تجد نفسك مضطرا للسؤال أو الخوف من التلف؟ لذلك يمكن لأي مغربي له معرفة بسيطة بالعلامات الصورية والخطاطية وبالكتابة أن يجد نفسه يتجول في أي عاصمة كبيكين في يوم واحد، وكأنه يسكن فيها من قرون؟ فالخرائط الكبيرة المعلقة والجيبية المحمولة رهن الإشارة أبدا.
في محطات الحافلات الرباطية وقد صارت لها واجهات زجاجية أنيقة (هايبر حداثة؟)، لن تجد على حافتها سوى لوحات إشهارية كبيرة ومزوقة بحروف لاتينية لشركات معدودات ومن الوجهين معا. تخليك هذه اللوحات وأنت تتشمس أو تبتل في انتظار الحافلة التي لا شك ستأتي وقد لا تقف، تحت شبه سقيفة ( الديزاين أهم )، تتذكر صور زعماء الثورات العربية رؤساء الحزب الواحد، فلا تثير لديك سوى الإحساس بأن هذه الشركات هي التي تحكم البلد، وهي الوحيدة، التي لا أسرار لها، في الإعلان عن الملايير التي ربحتها، وملايين الزبناء الذين صاروا من أتباعها؟ فتقول في نفسك، وأنت تحاول شغلها، عن التفكير في الحافلة: اللهم هذه اللوحات بألوانها الزاهية والراقية؟ إذ لو وضعوا خرائط، فمن سيفهمها، ومن سيفك ألغازها، وأنت ترى أي واحد من الناس، وكيفما كان مستواه في محاربة الأميات المختلفة، وهو يشير لك بيده اليمنى إلى اليمين، يشفع ذلك بالقول: دور على اليسار. وعندما تريد التأكد مما يقول، وتسأله مرة أخرى (فمن كان له فم لا يتيه؟) يتبين له أنه أعطاك الإشارة الخطأ فيضحك، ويحرك يسراه ليشير إلى اليسار. حتى القطارات السريعة والجميلة والمكيفة، ( بصراحة لم أركب الطرامواي) لا تخبرك بالمحطة التي وصلت إليها، وعليك أن تسأل مجاورك عن اسم المحطة، لأنه يستحيل عليك رؤية العلامة التي كتب عليها اسم تلك المحطة. ولكنك تفاجأ وأنت جالس في مقعد مريح، أن أمامك مستطيلا صغيرا ( شريط ضوئي، والله لا أذكر هل هو متحرك أم ثابت؟) يحمل اسم الشركة، فتقول مع نفسك، إنهم ينبهونك إلى السكة التي تستقلها، كي لا تذهب بك الظنون إلى أنك في ناقلة عمومية أو شركة جوية؟ فأن تعرف نفسك في القطار وتتأكد من وجودك فيه أخير من أن تعرف المحطة التي وصلت إليها؟ وحتى في المحطات التي تسمع فيها صوتا يخبرك بالعربية والفرنسية عن المحطة، عليك أن تسأل مجاورك عما يقوله ذلك الصوت، وهل سمع شيئا. وأتعجب لبعض الأجانب الذين يركبون ولا يسألون رغم أنهم لا يرون العلامات، ولا يفهمون العربية أو الفرنسية كيف أنهم ينزلون في المحطات الملائمة، فـأتبين الخرائط معهم، ويتصرفون فلا يضيعون.
مع الحداثة الحداثية صرنا، في المغرب، نتمتع بالخرائط الرقمية في الحواسيب المحمولة والهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية. وصارت بعض السيارات المغربية مجهزة بهذه الخرائط. لكننا في الواقع العملي، لا نزال نسأل كي لا نتلف. ولكننا نتلف، مع ذلك، لأننا نسأل، وسنظل نسأل لنتلف أو لتأجيل التلف. وفي كل الحالات لا نعرف مدننا التي نعيش فيها، كما لا نعرف المدن التي نسافر إليها، لأن مدننا وقرانا وبوادينا بلا علامات، ولا علاقة لنا بالخرائط التي لا نحسن قراءتها. مسؤولية من؟ المجتمع؟ المجالس البلدية والقروية؟ مديرية الطرق؟ ومع ذلك أكتب: الحداثة أعمق مما نتداول، وليس بالضجات الإعلامية تتطور المجتمعات.