كرمة النص: لحسن لعسبي

 كرمة النص : لحسن لعسبي

Quantcast

 اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في: الإثنين، 30 مايو، 2011

لحسن العسبي (-)

    أنا هنا، أشبه، بمن ظلت الكلمات محبوسة في حلقه من زمان، تنتظر أن تقول ذاتها بفرح، لأنها كلمات التلميذ لأستاذه في الأول والأخير•

ومثل هذه الكلمات، لابد لها أن تكون مبللة بذات الروح التي يتعلمها الطالب البوذي من أستاذه، حين يأخذ هذا الأخير، عنقه بلين ويغطس رأسه في الماء، حتى يضيق التنفس منه، ثم يخرجه ويطلق فيه تلك الكلمات النافذة، الراسخة، العميقة، درسا للحياة: “عليك أن تحب الحقيقة وتبحث عنها، كما أحببت الهواء وأردته الآن”.

       كنا في لحظة استراحة بين ساعتي درس. تقدمت نحوه بخطو الفتى الذي كنته، وطلبت منه السماح لي بتخصيص الساعة المتبقية من الحصة لعرض حول منع أربع مجلات ثقافية مغربية من الصدور دفعة واحدة (منها الثقافة الجديدة، الجسور، البديل). أنصت لي بذات الهدوء الذي كان يميزه، هدوء العالم. وشرع يربت على كتف معلوماتي كي يستخرج مني بلين أسباب اختيار تلك المجلات، المحسوبة على اليسار المغربي. طال الشرح، وبقينا أنا وإياه، الأستاذ وتلميذه، نلعب لعبة الإستكشاف بفرح، وباقي الزملاء التلاميذ قد عادوا إلى كراسي الدرس، وجلسوا يتأملون ذلك المشهد غير المعتاد الذي طال. وبعد أن أعياهم التأمل والسؤال، انخرطوا في حوارات ثنائية، وبقينا نحن في حوارنا الثنائي الحميمي العميق ساعة كاملة.

      قادنا الحديث إلى والدي، المدرسة التي تعلمت منها كل شئ، مواقف وسياسة ومبادئ، وهو الوالد الذي سيتأكد الأستاذ يقطين من طينته حين أصر على زيارته في بيتنا الشعبي بعين الشق بالدارالبيضاء، أياما بعد أن اعتقلت وأنا طالب بكلية الآداب. حينها قال الأستاذ يقطين لصديق مشترك، ساعده في الوصول إلى عنوان البيت، جملة لم يقلها لي قط مباشرة ولا حدثته عنها قط إلى اليوم. وهي الجملة التي وصلتني بفرح، قال فيها: “ألم تنتبه معي أن الرجل لم يكلمنا قط عن ابنه المعتقل، بقدر ما كلمنا عن مصير البلاد؟!”.

       كنا أربعة، نجلس في آخر الصف [ محمد معتصم، الناقد الأدبي المعروف اليوم – عمر حيشان أستاذ اللغة الإنجليزية المتفوق – حسن الراضي أستاذ التعليم الإبتدائي النزيه والمثال – وعبد ربه]. كنا منطلقين ربما أكثر من اللازم، وكان هو الوحيد الذي نجح في أن يلجم اندفاعنا الغر، بشئ واحد: المعرفة. بل غزارة المعرفة التي كانت تصدر عنه. لقد حكمنا بالعلم المخزن في القلب، وكانت طريقته المختلفة في التدريس، قنطرة عبور نحو محبة محترمة للإنساني الذي كان يشع منه. وحين جاءت نتائج الإمتحانات، قال فينا جملة لم تكن عابرة بالنسبة لنا، في ما معناه: ” ذلك الرباعي استحق احترام الجميع من الأساتذة”.كنا قد حصلنا جماعة على نفس درجة التشجيع المطلة على التنويه، حين كانت الدرجات التقييمية لا تزال لها قوتها التربوية والرمزية، ولا تمنح بغير كثير من الجهد المعرفي والتحصيل المدرسي الدؤوب.

     مرت السنة الدراسية، ومر أساتذة كثر، وكانت تلك الجملة سببا لأن يبقى ذلك الرباعي مجتمعا إلى اليوم. فقد مرت 29 سنة، منذ أطلق فينا يقطين جملته التربوية النافذة تلك، ولا نزال أوفياء للتوصيف الذي خصنا به، من زملاء فصل، صرنا أصدقاء درب.ومن أصدقاء درب، أصبحنا إخوة حياة. وكل الزملاء الذين درسوا معنا حينها، والذين تفرقوا في الأصقاع، لا يزالون إلى اليوم، كلما ذكر اسم سعيد يقطين، يقف الإحترام فيهم سامقا في الدواخل، في ذلك البراح الشاسع للمحبة. ففي باريس أو كوبنهاغن أو لندن أو برشلونة أو روما أو نيويورك أو الرباط أو سلا أو زاكورة أو برلين أو طنجة أو مراكش ••• وصف المدن التي تفرقنا فيها لأسباب العيش والحياة، كل واحد منا فيه شئ من يقطين، ذلك الأستاذ الهادئ الذي يلج الفصل، ولا يطلب الصمت قط، بل يدفعنا تواضعه وسموه المعرفي، أن نخجل لوحدنا ونصمت (هكذا كان يفعل طه حسين أيضا، كما أخبرني بذلك المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي)• وكنا جميعنا مأخوذين بخطه الجميل حين يرسم الكلمات، وليس يكتبها، على السبورة. ومعه تعلمنا أننا نملك ملكات إبداع تستحق أن تكبر.وأهمها كيف نكون رجالا ونساء ناجحين وناجحات، في الدرس وفي الحياة•

     قرأت، مثل الكثيرين في كل العالم العربي، وليس فقط في المغرب، كل إصدارات الدكتور سعيد يقطين• وكنت أسعد أن يثار اسمه في عواصم المشرق العربي أمامي، في دمشق وبيروت والرياض والقاهرة (في مناسبات ثقافية متفرقة)، فأكمل بأن أعلن أمام الجميع، تشرفي أنني واحد من تلامذته• قرأت إذن بمتعة هائلة كل أبحاثه العلمية الرصينة والدقيقة، وأفدت منها الكثير الكثير• لكن، أجمل نصوصه التي لا أنساها قط، والتي أتحسر اليوم أنها ضاعت مني بعد أن كنت جمعتها، تلك التي نشرها مسلسلة في جريدة “أنوال” عن تطور مدينة مثل الدارالبيضاء، وعن قصة أهل حداوة، وقصة الجياد التي تموت نخوتها على إسفلت المدينة، وعن “كرمة النص”، أي تلك التينة العتيقة التي كانت في الطريق بين الدارالبيضاء وبلدة مديونة، في الطريق إلى مراكش، فقد كانت هي العلامة على أنك في منتصف الطريق• في تلك الكتابة اكتشفت يقطينا آخر، مختلفا عن صرامة الباحث العلمي، استعدت فيها يقطين الذي أعرفه، ذاك الرجل الشاعر، الذي ينظر إلى الحياة بعين مفارقة، هي ذاتها التي كان يمارس بها الدرس التربوي في فصل من فصول ثانوية المصلى بالدارالبيضاء، سنة 1982•

    كان خيمة معرفية هائلة•• كان خيمتنا التي ظللنا نستجير بها، ولا زلنا، كلما ضاقت بنا سبل الفهم في درب الحياة•• شكرا أستاذي سعيد يقطين، أنك علمتني كيف أكون رجلا•• (-)

كاتب وصحفي من المغرب


  • عبده حقي :  30 مايو 2011

    كل واحد منا فيه شيء من يقطين الفاضل لحسن لعسبي أغبطك على ذاكرتك الطرية التي تحتفظ بالتفاصيل الدقيقة. أما أنا فلم أتعرف على يقطين سوى من خلال أنوال ومن خلال سرده القصصي الجميل ولقائي به أواسط التسعينات بمناسبة توقيع إحدى أعماله الدراسية . لكن كان لقائي به أعمق وأفيد في ندوة الثقافة والتكنولوجيا. وكم مقتت تلك اللحظة العصيبة وأنا أشيعه والصديق محمد أسليم بمحطة القطار بمكناس وودت لو قضينا الليلة على تلة الحكي والسمر والاستفادة من منجمهما المعرفي العميق.