شعرية السيرة الذهنية: محاولة تأصيل

  د.  محمد الداهي

                                                                                                    تقديم : سعيد يقطين

                        1 .  محاولة تأصيل :

1 . 1 . إن محاولة ” تأصيل ” جنس أو نوع ما ، أو البحث في تشكله ، هي من الأعمال التي لا يمكن أن يُقدِم عليها إلا من يروم النظر في الظاهرة بعيدا عن تجلياتها العادية أو الملموسة . وهو بذلك يرمي إلى النفاذ إلى أعماقها التي تصلها بغيرها ، وتنظمها جميعا في نسق شامل وجامع.

1 . 2 . يدخل عمل الباحث والناقد محمد الداهي في هذا النطاق . فهو يسعى إلى اقتحام مجال ” نظرية الأجناس ” بوعي الباحث ، وحس الناقد . يركز على نوع محدد هو ” السيرة الذهنية “، وينطلق في البحث عن تجلياته في نصوص عربية قديمة وحديثة . ولا ينسى الاستئناس بنصوص أجنبية في المضمار نفسه . وهنا مكمن خصوصية هذا الكتاب الذي يتجاور فيه “المنقذ من الضلال ” للغزالي مع ” أوراق ” العروي ، وتتوطد الصلات فيه بين ” حي بن يقظان” بن طفيل ، و”أنا ” العقاد…

    ألفنا قراءة أعمال عن  هذه النصوص وغيرها من الأعمال المتناولة في هذا الكتاب ، وهي تعالجها من زوايا تختلف عن تلك التي وقف عليها الداهي متسائلا ومنقبا عن الجامع بينها،  وما تأتلف فيه وأين تختلف .

1 . 3. من السهولة بمكان قراءة أي مصنف أو مؤلف قراءة تعزله عن غيره ، وتكتفي بمعالجته في ذاته . لكن ما أصعب هذه القراءة حين تستهدف الوقوف على الأبعاد الجنسية أو النوعية للنص . وتزداد هذه الصعوبة عندما يكون ” الجنس ”  أو ” النوع ” المبحوث فيه ذا ملامح خاصة ، ولم يعالج ( في أدبيات سابقة ) بصورة  تقرب أبعاد تلك الملامح ، وتيسر للمجتهد أن يضيف أو يعدل ،،، وهذا شأن ” السيرة الذهنية ” . ومن هنا تأتي أهمية هذه “المحاولة التأصيلية ” . وتلك خصوصيتها المغامرة . إنها اقتحام لمجال ما يزال يستدعي الكثير من العمل والجهد .

2 . البويطيقي والنقدي :

2. 1. يغامر الباحث ، ويسمي ” النوع ”  ( السيرة الذهنية ) . ويبحث عن تجلياته في نصوص قديمة وحديثة :

 أ  ـ المنقذ من الضلال : الغزالي .

    ـ التوابع والزوابع : ابن شهيد .

    ـ حي بن يقظان : ابن طفيل .

ب  ـ أنا : العقاد .

    ـ أوراق : العروي .

    ـ شارع الأميرات : جبرا إبراهيم جبرا .

وهو إلى جانب هذه النصوص يعالج غيرها بصورة أو بأخرى . يقارن أو يوازي ، يستشهد أحيانا بالنظير، وأخرى بالمفارق ، بغية الإمساك بالعلاقات والتشابهات والتقاطعات . وتظل “السيرة الذهنية ” عصية ومستعصية ، تختلط بالسيرة الذاتية أحيانا . وتحاول الاستقلال عنها أخرى . وبين الاتصال والانفصال تبتعد السيرة الذهنية حتى نعتبرها تنويعا على لسيرة الذاتية، وتقترب منها إلى درجة التماهي . أوليست هذه هي طبيعة الأجناس والأنواع . تتداخل وتتقاطع، وتتصل بعضها وتنفصل عنه في الآن ذاته . ولذلك يسهل إنكار التمايز ، ولكن يصعب إثباته . وهذا جوهر التفكير الأدبي ، لأن اي تفكير فيه هو تفكير في أجناسه وأنواعه .

2 . 2. ينبري الباحث محمد الداهي لهذه المعضلات بجرأة وحذاقة . ولابد ، في هذه الحال ، من الاصطدام بالصعوبات . يحاول المزاوجة بين عمل البويطيقي وعمل الناقد . فيتوارى الأول وراء الثاني .

2 . 2. 1 . يسعى البويطيقي / العالم إلى معاينة البنيات المجردة ، ورسم الخطوط الكبرى لمعالم المشروع الجنسي وما يتفرع عنه من أنواع وأنواع فرعية ،،، فيضع الثوابت العامة بناء على معايير كلية وجوهرية . وهو لايحقق هذا العمل إلا بعض إنجاز أعمال امبريقية على تجليات عديدة تتصل بالجنس موضوع البحث .

2 .2. 2 .  يأتي عمل الناقد ليشتغل بالتجليات وفق التصورات والإطارات التي وضعها البويطيقي . فيقارب الموضوع من زاويته الخاصة ، فيضيف ويعدل ويدقق وفق  ما يقدمه له المتن المشتغل به . وكما يستفيد الناقد من عمل العالم ، يستفيد هذا منه في دورة مستمرة ودائمة من البحث المتواتر .

2 . 2 . 3. يمكن أن يجتمع الناقد والعالم في شخص فيتكامل عملهما ، ويحقق أحدهما للآخر ما يحتاج إليه . وهذا الرهان الأصعب هو ما رام الباحث الداهي ركوبه . وإذا كان عمله النقدي بارزا في هذا العمل من خلال انكبابه على نصوص بعينها ومعالجتها في ضوء الأسئلة العلمية التي طرح ، فإن هذا النمط من الاشتغال لا يمكن أن يؤدي به إلا إلى الكشف عن خصوصيات النصوص التي عمل على تحليلها من حيث بعدها النوعي الجامع ( السيرة الذهنية) . ولقد وفق فعلا في إضاءة العديد من الجوانب ، والوقوف على العديد من المميزات والتجليات المتصلة بالنصوص التي عمل على تحليلها .

2 . 3 . ليس من السهولة بمكان ، الاضطلاع بعمل العالم في الفكر الأدبي العربي بوجه عام. وما يزال أمامنا الكثير من الجهد لنبذله لنصل إلى هذا العمل . ولعل أهم نقطة انطلاق في هذا السبيل هي أولا الإيمان بجدوى ذلك وضرورته . وقد تحقق هذا في هذه الدراسة التي تسعى فعلا لتكون ” محاولة للتأصيل ” ومنطلقا للبحث والتحليل ، ومدخلا لابد من أن تتلوه مداخل أخرى لترجمة جزء من إشكالات الدرس الأدبي العربي ، وتطوير قضاياه ، وتفجير أسئلته العديدة : المعلقة والمؤجلة.

    شعرية السيرة الذهنية لمحمد الداهي خطوة أولى في رحلة الألف ميل . ولتكون فعلا تلك الخطوة ، فهي تستدعي الحوار والنقاش ، بل إنها تدفع إليهما دفعا . وذاك هو ما يبرر حضورها وجدواها  .