رواية القوقعة لعبد الله الغزال

 مقدمة

عندما تشرع في قراءة “القوقعة” للكاتب الليبي عبد الله علي الغزال يداهمك شعور هادئ، وينتابك الإحساس، حين تكون مهووسا بروايات المغامرات وكثرة الأحداث، بأن لا شيء يجري داخل القوقعة، وأن ما فيها يتحرك بتؤدة وبطء لا نظير لهما، أو كأنها عالم يتقدم إليك بهدوء وبساطة وعمق.

    يبرز لك هذا الهدوء في غياب الحدث الذي تلهث وراءه أو الذي تبغي الإمساك به لتلاحق ما سيجري وتخلق لك العوالم الممكنة في مخيلتك الجامحة، لأن كل واحد منا عندما يقتحم مجتمع الرواية، أي رواية، ينطلق مما تراكم لديه من تجارب في القراءة . فالأحداث هنا قليلة، وحتى ما يقع منها لا يمكن أن تضمه إلى ما تستجمعه من أحداث ووقائع، إلا بعد أن تقطع أشواطا هامة من عوالم النص الروائي، وحتى في هذه الحالة الأخيرة تجد حصيلة ما ادخرته منها قليل جدا، بالقياس إلى ما يتزاحم لديك وأنت تتابع شريطا أمريكيا أو تقرأ رواية كلاسيكية ، وإن كان الرصيد الذي يتأكد لك من القراءة أهم وأغنى.

    إن الراوي، وهو بالمناسبة ماهر وحاذق، يأخذ كل وقته ليبني عالما لا تتشكل لك ملامحه إلا بعد الانتهاء منه. وهو يبنيه غير مستعجل ولا متابع بشغل آخر يقضيه غير غزل خيوط عالمه بهدوء وصبر وأناة . يصف الأشياء ويتوقف عند أدق التفاصيل المحيطة بعالم شخصية “ميكال”، وانعكاساتها على نفسيته العميقة والهادئة إلى درجة الجماد: تربصه مثلا للزنجي والفتاة، أو تلصصاته العديدة على مالك المزرعة وضيوفهم في سهراتهم الليلية، أو على ابن مالك المزرعة و”نوار”، أو معاينته مشهد قتلها الفظيع على يد ابن مالك المزرعة ببرود وحياد يصل حد الموت في نهاية الرواية.

    ينجم عن هذا الوصف الدقيق للأشياء والشخصيات رصد صبور لنفسيات الشخصيات (وخاصة ميكال) وهي تتأمل العالم المحيط بها أحيانا ب”بلاهة” لا نظير لها. هذه الشخصية صارت في آن واحد ذاتا للتبئير وموضوعا له: إذ من خلالها نرى كيف يتشكل عالم الرواية، وتتكون مختلف صوره وأشكاله من البداية ( القسم الأول: الرحلة ) حتى النهاية (القسم السابع: العودة)، وهي في الوقت نفسه الشخصية التي نرى العالم الروائي كيف يتمحور حولها، وتقع كل الأحداث بصورة أو بأخرى متصلة بها.

    لقد نفذ الراوي الناظم إلى أعماق هذه الشخصية الهادئة والمتأملة ، فتجسد كل ذلك على التجربة الروائية بكاملها في “القوقعة”، فإذا بك أمام هدوء، يصل أحيانا حد العاصفة ( مشهد قتل نوار )، وتأملا يصل إلى صمت رهيب، وعمقا غايته الوصول إلى منتهى أبعاد الأشياء.

    أما البساطة فتتبدى لك بجلاء في الأحداث التي تضمها الرواية، فهي كما سبقت الإشارة محدودة، و”مطروحة على الطريق”، ولو تناولها كاتب لا خبرة له، لقدم لنا نصا باردا لا روح فيه ولا له.

    إنها سبعة أقسام تنقلك بين فضاءات متعددة، ثلاثية الأبعاد: النيجر، ليبيا، تونس. وداخل هذه الفضاءات ينقلك السرد من الصحراء إلى البحر: ففي الصحراء تجد القرية الإفريقية التي يقتلها الجفاف والجوع وتفرض على أبنائها الهجرة إلى الشمال (ليبيا ) كمحطة عابرة أو دائمة وفي اختراق الصحراء للوصول إلى الحلم تنقضي حيوات وتنتهي مصائر. وفي المدينة الحلم، يأتي السور الذي يضرب عليها ويحاصرها فترى الثراء السريع ومقابله استغلال الموقف عن طريق إشباع الغريزة الحيوانية وترك الضحايا.

    هذه الرحلة التي تقوم بها الشخصية المحورية “ميكال” تتأسس على حافز مركزي هو اصطحاب البطل معه “قوقعة”  تصير تختزل “وجوده” ومقررة لمصيره، إلى جانب وصية حكيمة ( ناسكة، نوار معا وراءهما وصية ) . يؤدي خرق الوصية ، وضياع القوقعة ارتباكا في حياة البطل : ضياع البوصلة خلال مدى واسع في الرواية، فيكون، وكأن كل ماوقع نتاج هذا الإهمال. وبعد أن يقع كل ما وقع ، وتمتلئ كل الفجوات وتسد كل الثغرات ، يعثر ميكال على “قوقعته” فيكون ذلك إيذانا بانتهاء مصير، فتقررالجملة ما قبل الأخيرة في الرواية الرجوع إلى موطن القوقعة الأول. وهذه “القوقعة” ستغدو عنوانا على دلالات متعددة يوحي إليها النص بين الفينة والأخرى، وهي تتكامل فيما بينها لتشكيل صورة النص العامة، وبذلك فهي حين تكون “عنوان” الرواية فهي بذلك تختزن كل مقوماته وعناصره.

    كان المنطلق هجرة الزنوج إلى ليبيا، وتم الانتقال من خلاله إلى آثار الحصار على الاقتصاد والبلاد والعباد ، وكانت النتيجة مغامرات غرامية ذات نهايات مأساوية ،،، كل ذلك يتشكل من خلال شخصية “ميكال”، سردا وتبئيرا.

     لكن الروائي، وهو يمسك بناصية السرد، ويمتلك لغة سردية ذات شحنة شعرية، أحيانا عديدة ، تجعلك تتابع عالما يتشكل من خلال لغة آخذة ومثيرة بصبر الباحث وأناة الفنان، فإذا ببناء الأحداث وتسلسلها وكيفيات وقوعها وتقديمها يقنعك تماما وأنت تنتهي من قراءة الرواية أن الروائي نجح في تكوين “مجتمع” روائي متكامل، وأوصل المعنى الذي يبغي كاملا غير منقوص بطريقة فنية وبليغة لا تحتاج إلى التعابير الجاهزة والأسلوب المباشر.

    كل شيء في “القوقعة” يتخلق من خلال “عالم” قيد التكون. وما عليك سوى متابعة القراءة ـ الرحلة حتى النهاية لتجد عالما تاما يسلم نفْسه ونفَسه، ويؤهلك لاستخلاص الدلالات التي عمل على تجسيدها بعمق المتأمل وبساطة الحصيف.

    ويبدو العمق بجلاء في هذه البساطة وذاك الهدوء. إن وراء الأشياء الظاهرة التي يركز عليها الراوي الناظم واصفا، وداخلا على أعماق الشخصية المحورية، ونحن نراها وهي ترى، أو حين تتكلم باقتضاب وبجمل بريئة وشبه محايدة ، ولكنها محملة بعنف نستشعره موجها نحو الباطن. وهذا السر في رأيي في كون شخصية ميكال تبدو شبه محايدة حيال ما يجري: ببساطة وتلقائية قاتلة يرفض طلب “ناسكة” الزواج منه. ولكنه يتزوجها. ونحس به متأثرا ومتألما لما يقال عن زواجه من عاهرة، وقد صار أحدوثة عمال المزارع ، ومتحسرا على ضياع القوقعة سر وجوده، وصابرا على ضرب وتعنيف ابن مالك المزرعة له،،، ولكنه لا يتكلم، ولا يرد، وباقتضاب إن فعل.

    لكن عمق هذه الشخصية لا يمكننا تبينه إلا من خلال الحركة، ونحن نراها تتحرك في أحراش المزرعة أو في شوارع مصراتة قرب ميدان النصر بحثا عن بائعة المراهم، أو وهي ترصد العربات التي تقصد المزرعة أو تغادرها، أو تأملها المظاهر الطبيعية في أدق جزئياتها.

    كل هذه “الحركات” التي نراها، تتشكل أمامنا من خلال اللغة المحملة باستعاراتها ووصفها الدقيق وصورها السردية، تُجسِّد لنا “المسكوت عنه” وهو ذو بعد بصري وسمعي، إلى درجة أننا عندما نتأمله جيدا وننصت إليه بهدوء، من خلال اللغة التي يصلنا عبرها، نلفي نفسها أمام عنف لا مثيل له. إنه العنف الذي يتشربنا ونحن نرى تلك الشخصية تواجه مصيرها، أي قدرها، مفكرة فيه، متسائلة بصدده، منتظرة ما تسفر عنه الأيام. وفي النهاية تقرر، هذه الشخصية وقد استرجعت “القوقعة” التي أضاعتها، العودة إلى الأرض التي خرجت منها: موطنها الأصلي.

    إن الهدوء والبساطة والعمق الذي نوميء إليه وليد الشخصية المحورية. ولعل الروائي وهو يختار هذا الأسلوب التعبيري عن عوالم روايته يعكس بذلك رؤية عامة نجد الكثير من سماتها حتى في روايته الأولى التابوت . ويدفعنا هذا إلى التساؤل عن آفاق تجربة عبد الله الغزال؟

    عبد الله الغزال روائي متمكن، وله قدرة كبيرة على خلق عوالم روائية تمتح من واقع التجربة المعيشة، وعنده إمكانات مذهلة للتعبير عن فضاءات جديدة ومتنوعة. إنه إغناء متميز للتجربة السردية العربية في ليبيا، ومساهمة غنية في المشهد الروائي العربي. لنقرأ هذه الرواية، لنقف بجلاء على ما تخزنه هذه “القوقعة” وما تختزله من عوالم شديدة الصلة بالواقع ووثيقة الصلة بالخيال المبدع.

عن مؤسسة الانتشار العربي صدرت رواية القوقعة للكاتب الليبي عبد الله الغزال وتأتي القوقعة بعد روايته الاولى التابوت الفائزة بجائزة الشارقة للابداع 2004 .